27-يونيو-2016

لا تجعلوا مستقبلهم بأكلمه معلقاً بنتيجة امتحان(Getty)

عندما كنّا فى مرحلة الثانوية كان عدد من الأساتذة يرددون على مسامعنا "عقدة السنوات الزوجية"، نظرًا لفكرة شائعة أن الامتحانات تكون أصعب في معظم السنوات الزوجية، لكننا لم نسمعهم يقولون إن في هذه السنوات الزوجية تعجز الدولة عن الحفاظ على ورق الأسئلة، وتنتشر ظاهرة تسريب الامتحانات بالشكل الذي يهدد هيبتها، وتصير أضحوكة على يد مجموعة من مشرفي صفحات "شاومينج"، المسؤولة عن هذه التسريبات.

يوهم النظام الطلاب وعائلاتهم أن الثانوية العامة هي بمثابة السنة الفاصلة في عمرهم وعليهم أن يجهدوا أنفسهم إلى أقصى حد وما دون تلك السنة راحة وهدوء

حينها كانت الدولة قادرة على أن تمارس احترامها لذاتها عبر امتحانات الثانوية، انطلاقًا من الضجة الإعلامية التي تصحب كل امتحان، أو التشديدات على لجان الأسئلة وحتى نكون منصفين أكثر، كانت تستثني أولاد المرضي عنهم. في السنوات السابقة، كانت عبارات النكاية والتشكي واللوم لا تلقى إلا على الوزارة وحدها لكن هذه المرة تبين الشعب مدى هشاشة النظام كاملًا وليس الوزارة لوحدها، ومدى عجزه في أن يمسك بمجموعة من "العيال" كما يسمونهم، الذين طالما عيروهم بفشلهم وعجزهم عن تأمين رزم من الورق.

من الممكن أن نعتبر "أزمة التسريبات" مشكلة عادية تتكرر كل عام لكن هذه السنة زادت حدتها، وبدل أن تلتزم الدولة والوزارة بإجراءات مشددة وحازمة،لكن من غير الطبيعي والمفهوم أن تصدر وزارة التربية والتعليم قرارًا لا مشددًا ولا حازمًا، وهو إعادة امتحان مادة " الديناميكا"، وتأجيل مواد "الجيولوجيا وعلوم البيئة والجبر والتاريخ"، الأمر الذي زاد من حدة سخط الطلاب على الوزارة، إذ من الصعب أن يعيدوا كل هذه المواد، خصوصًا لو كانت المادة بحجم "الديناميكا" والتي تمثل لهم عبئًا ثقيلاً وغمة قد انزاحت من على قلوبهم، لكن الوزارة تأبى إلا أن تعيد تلك الغمة مرة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: التسريبات تؤجل امتحانات الثانوية العامة المصرية

لا شك أن الأمر محزن للطلاب وكذلك الأهالي، خصوصًا أنهم سئموا حالة الضغط البدني والعصبي، والتي أوشكوا أن يودعوها بغير رجعة، لكن هناك شخص حزين على حال هؤلاء "المساكين"، الذين تصر الوزارة أن يبقوا في عنق زجاجة الثانوية أسبوعًا آخر، وفي ذات الوقت ثارت ثائرته على وزارة بهذا المستوى في التفكير والتعامل، هذا الشخص هو المفكر الفرنسي "غوستاف لوبون".

منذ ما يقرب من قرن، عندما كان "غوستاف لوبون" واقفًا فى إحدى شرفات منزله المطل على العاصمة باريس، جاءه صوت المذياع بأخبار عن امتحانات طلاب المرحلة الثانوية، والذين مروا بظروف مشابهة لطلاب الثانوية المصرية هذا العام، لكن الاختلاف الوحيد هو أن كلمة "الغش" لم تكن قد ظهرت في قاموس الطلاب بعد، وعلى الجانب الآخر كانت الدولة قادرة على تأمين أوراق الامتحانات نسبيًا.

عندما سمع تلك الأخبار حزن بدوره على الطلاب، ونقم على النظام الذي استطاع أن يزرع في قلوب الطلاب "عقدة الثانوية"، من خلال إيهامهم أنها بمثابة السنة الفاصلة في عمرهم وعليهم أن يجهدوا أنفسهم إلى أقصى حد في الحفظ والفهم وما دون تلك السنة راحة وهدوء، وأنها لا تحتمل أي خطأ، فبغلطة صغيرة من الممكن أن يخرجوا عن دائرة النبلاء وشرفاء المجتمع إن لم يكن عن الحياة بأكملها.

وهنا أمسك "غوستاف لوبون" بقلمه وقرر أن يخوض تجربة يحاول فيها أن يخفف حدة الحزن البادي على وجوه الطلاب، ويحاول الإبقاء على ما لديهم من شغف وأمل عن طريق انتشالهم ولو بالقوة من عبثية أفكارهم كي ينطلقوا إلى فضاءات الحياة المطلقة، لكن ليس بدرجاتهم التي حصلوا عليها، بل بالخبرات التي اكتسبوها.

اقرأ/ي أيضًا: "شاومينج" لا يموت.. تسريبات "ثانوية مصر" مستمرة

حاول لوبون التخفيف عنهم بإفهامهم أن التجارب العملية هي الأهم وليست الدراسات الأكاديمية، وهذه التجارب هي التي تقدم دليلاً وبرهانًا قاطعًا على أن أول مراحل الارتقاء نحو الفضاءات المطلقة يكون بالتخلص من تلك الكتب الرديئة، وإبطال هذه الامتحانات التعيسة، والرجوع مرة أخرى إلى المعامل التي اعتادوا دائمًا أن يهربوا منها، وأن الأمم تسود الأمم عندما يكون سلاح العلم فيها مقدمًا على السلاح النووي، وأن الكتب وحدها لا تخلق وعيًا ولا تحرر فكرًا، وأن الحياة الحقيقية في الخلق والتجارب والإقدام فهي بحق عدة الحياة.

سعى غوستاف لوبون إلى نشر فكرة أن التجارب العملية أهم من الدراسات الأكاديمية

كان يركز مع الطلبة على أن لا يجعلوا مستقبلهم بأكلمه معلقًا بنتيجة امتحان يمتد لبضع ساعات، وأن لا يقبلوا أن يفرضوا عليهم نظامًا تأباه الطبيعة، وأن يحصروهم في حجرات الدرس التي لا يتلقون فيها إلا الحفظ والتلقين أو يشحنوهم بتلك المواد التي لا تمت للحياة العملية بشيء، غير عابئين بالنتائج السلبية التي من الممكن أن تصيب الطلبة نتيجة هذا الأسلوب، فيجد الطالب نفسه يخوض غمار حرب الدرجات يناطح فيها نفسه، فما تضيع منه درجة حتى تخار قواه ويسقط صريع حلم بات مهددًا بدرجة تتحكم في إمكانية بقائه أو زواله.

وفى لهجة حازمة منه وقد أراد أن ينهي كلمته فقال للطلاب: مدارسنا لا تكسب الشباب هذا المتاع على ضرورته، لا تكسبه حسن التمييز ولا الإرادة ولا صلابة الأعصاب، بدلاً من أن تجهزه وتهيئه، فإنها تضعفه ليكون مستقبله غامضًا وغير واضح الملامح، لذلك تراه يسقط في كل خطوة يخطوها، ويلحقه الجزع كلما دنا من هدفه الذي يترقبه، وقد يصير كالأعرج ويبقى كذلك طويلاً.

إن كأس الثانوية دوّار ولابد للكل أن يشرب منه، ويتجرع مرارته ويتذوق لذعته، لكن للأسف لا تذهب مرارته ولذعته عن ألسنتنا إلا متأخرًا، ربما السبب في هذا الإحساس المتأخر، هو أن عقولنا التي ظلت إلى عقود حبيسة بين أكداس الكتب والدرجات قد حُررت إلى حد ما، ولابد لهم أن يستوعبوا هذا الدرس عندما يتخطوا تلك المرحلة بسلام، في الوقت الذي تقف فيه الدولة "محلك سر" إلى أن يشاء الله.

اقرأ/ي أيضًا: 

الامتحانات الثانوية اللبنانية: الغش هو الحل!

من جعل الغش ثقافة عامة في الجزائر؟