10-أبريل-2024
غرافيتي مقاطعة اسرائيل

لم يحدث تقريبًا أن تابعت الجماهير العربية حربًا وتفاعلت مع أحداثها وأسالت مدادًا كثيرًا حول توقع مخرجاتها، منذ النكسة، كما فعلت مع عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من تدمير وحشي لمظاهر الحياة في قطاع غزة المحاصر من قِبل الاحتلال الإسرائيلي.

وعلى الرغم من أن هذه الهبة الشعبية مبشرة، كونها تدلّ على ديمومة القضية الفلسطينية في وعي الشعوب العربية، بالرغم من تعطل بوصلة أنظمتها؛ إلا أن تجاربنا مع الاندفاعات العاطفية التي نصحوا منها دائمًا على صدمة الهزيمة، صارت تحتم على الفرد العربي اليوم تطعيم هبّات كهذه بخطوات عملية، قد تقود إلى نصر معنوي وأخلاقي قبل أن يكون عسكريًا.

لقد أطنبنا في تحليل الخطابات العسكرية للمقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية أيضًا، وكذا في نشر فيديوهات قتال الشوارع والرشقات الصاروخية والكمائن، إلى درجة صارت معها ضمائرنا تتغذى يوميًا على هذا الإحساس بأننا نعاضد الشعب الفلسطيني ومقاومته بما يكفي، وأننا نقوم بدورنا كما يجب وأكثر. لكن الواقع هو أننا نعلق آمالنا على أسلحة ليست في متناولنا، بينما نترك أسلحتنا الأقوى مرمية على الطريق. وعلى وزن "دع الخلق للخالق"، يحتاج الشارع العربي اليوم إلى مقولة: "دع القتال للعسكر، وقاوم من موقعك". 

تحضيرًا لمقال صحفي سابق حول ثقافة المقاطعة في تونس وفي باقي البلدان العربية، ومن خلال نماذج مختلفة من المجتمع، ما بين مستهلكين وتجار ومتعلمين وأناس بسطاء، خلصت إلى شيء واحد وأكيد في ما يخص علاقتنا بفكرة المقاطعة، مفادها أننا في هذه النقطة بالذات نُمسي أكثر الشعوب براغماتية، لكن بطريقة مقلوبة، إذ يمكن تصنيف الذين حاورتهم إلى قسمين كبيرين.

من المفارقات أننا نتفرج على ذبح عشرات الآلاف من المدنيين على شاشة الهاتف نفسه الذي نطلب به "ديليفري" المنتجات التي تدعم الاستيطان والإبادة

يرى الأول أن مساعي المقاطعة ليست على شيء من التأثير الحقيقي يكفي ليُحدث تغييرًا حقيقيًا في سياسات الحرب والسلم.

والثاني يرى أن تأثير المقاطعة كبير لدرجة أننا قد لا نعود قادرين على احتمال تبعاتها، وذلك في إشارة إلى الاقتصاد الوطني ومستقبل الاستثمار الخارجي وتهديد اليد العاملة بالمؤسسات الأجنبية.

بين هذا الخوف المزدوج، من ضعفنا كما من قوّتنا، يبرز سؤال التثقيف والتمهيد الذي يسبق حملات المقاطعة الناجعة، والتي نقرأ عنها مثلًا في أحد الحوارات مع نعوم تشومسكي، ففي سياق المقارنة بين المقاطعة في حالة جنوب أفريقيا وحالة فلسطين، يذكر أنه في حالة الأولى، كان للمقاطعة بعض الوقع، لكن من المفيد التذكير بأنها طُبّقت بعد فترة طويلة من التثقيف والتنظيم أدت إلى إدانة واسعة لنظام التمييز العنصري حتى في داخل الرأي العام السائد والمؤسسات القوية. أما في حالة "إسرائيل" فهي مختلفة جذريًا، ذلك أن العمل التحضيري والتثقيفي والتنظيمي في بدايته (غزة في أزمة ـ تشومسكي و إيلان بابيه . شركة المطبوعات).

منذ بداية الغزو، تكلم حقوقيون وصحفيون ومفكرون كثيرًا حول أهمية المقاطعة الاقتصادية كحركة رادعة للبلطجة المنظمة التي تتعرض لها فلسطين حاليًا، ودعا كثيرون إلى مزيد من تنظيم الجهود المبذولة في التعبئة والتوعية حول هذا السلاح السلمي الذي يخاطب نظام رأس المال القائم بمنطقه ويحاربه بأدواته. غير أن صدى هذه الدعوات لا يزال دون المطلوب، مقارنةً بالأهوال التي تصلنا صورها من غزة كل يوم.

في حوار جانبي مع أحد الكهول من تونس العاصمة ذكرني بحادثة الترامواي شباط/فبراير 1912 التي، بعد العودة إلى مراجع معتمدة (إستراتيجية المقاطعة ضد الاحتلال إسرائيلي – المركز العربي ص 56)، وجدت أنها مثلت سابقة في المقاطعة الناجعة كمًّا وكيفًا بالنظر إلى وسائل التعبئة البدائية التي اعتمدتها حركة الشباب التونسي آنذاك، تنديدًا بدهس قاطرة ترامواي يقودها موظف إيطالي لمراهق تونسي.

أمّا اليوم فنحن نتفرج على ذبح عشرات الآلاف من المدنيين على شاشة الهاتف نفسه الذي نطلب به "ديليفري" المنتجات التي تدعم الاستيطان والإبادة.

لا يوجد تفسير لحالة التواطؤ التي يتعامى الكثيرون عنها سوى الاعتراف أن استبدال بسكويت بآخر صارت مسألة شاقة أكثر مما قد تبدو مقارنةً بالوقوف شهودًا على استبدال شعب وعرق كامل بآخر، بينما يواصل العرب صياحهم كل يوم جمعة حتى تبح أصواتهم نصرة لحق الفلسطينيين في الوجود.

قبل فترة، شهدنا غضبًا جامحًا ورشًا للطلاء على واجهة محل شركة زارا بالعاصمة تونس بسبب الإعلان التسويقي الذي اتفق الكثيرون أنه محاكاة رخيصة لأهوال الحرب الدائرة، وقد خلى المحل ليومين من الحركة التجارية المعهودة. 

أما وأنا أجلس لأكتب هذه الأسطر في اليوم الثالث، كانت الأمور قد عادت لنصابها: تمت إزالة الطلاء المعبّر عن دم أطفال غزة واستبدال زجاج الواجهة. وعلى الأرجح استبدال حرفاء الماركة الغاضبين بآخرين يمارسون التسوق على أنغام موسيقى الهاوس، معزولين عن أي سياق تاريخي وجغرافي.

تكلم حقوقيون وصحفيون ومفكرون كثيرًا حول أهمية المقاطعة الاقتصادية كحركة رادعة للبلطجة المنظمة التي تتعرض لها فلسطين حاليًا، ودعا كثيرون إلى مزيد من تنظيم الجهود المبذولة في التعبئة والتوعية حول هذا السلاح السلمي

ما الحكاية إذن؟ هل حقًا يختلف الناس إلى هذه الدرجة؟ هل أن من يلتزمون بالمقاطعة هم أصلًا من غير المهتمين بمهرجانات التسوق، وبالمثل، من يقبلون عليها و يعتنقونها ديانة لا علاقة لهم بالسياسة أو بأي قضية؟ أم أننا إزاء حالة انعدام للوعي والضمير بحيث صار الناس قادرون على النزول للشوارع حفاة، ليلة فاجعة قصف المستشفى المعمداني، ثم يقصدون المول في الصباح الموالي لدفع ثمن الصواريخ و الدبابات؟

الأرجح في رأيي أن الخطب يكمن في سيكولوجيتنا الجماعية وفي الطريقة التي نميل للتصرف بها تجاه الأخطار التي نواجهها: ربما نحن مدفوعون بموروثنا الثقافي إلى تبني الردود العنيفة والأفعال التي تبدوا لنا راديكالية وحازمة، بينما لا تزال أساليب النضال والتحرر اللاعنيفة غريبة عن قواميسنا و عن فهمنا.

لقد حطمت انتفاضات 2011 المُسلمة التي تعتبر الشعوب العربية خانعة للاستبداد، وكون الأمل في استعادتها لزمام التحكم في مصائرها شيء من المحال، لكن مجال تحركنا ظل منذ ذلك الوقت رهين الاحتجاج، السلمي في أحيان والعنيف في أحيان أخرى، كما انزلق في مناسبات كثيرة إلى التنظيم الراديكالي في ميليشيات إرهابية بتنويعاتها. أما الأساليب النضالية المبتكرة، التي استفادت منها الشعوب الأخرى، فما زالت بعيدة عن واقعنا، لأسباب نأمل أن تكن تقنيّة، وليست جينية.

أن تكون براغماتيًا في زمن موحش كهذا لا يعني أن تخاف من قوتك ولا من ضعفك، بل أن تضطلع بمهمة التأثير في الواقع من موقعك، ونستحضر هنا درس أوّل البراغماتيين العرب زكي نجيب محمود، الذي قال إن: "ما يحدد حقيقة الفكرة ليس هو مقوماتها، بل يحددها ما تستطيع أن تفعله في دنيا الأشياء... فالفكرة كمفتاح الباب مثلًا، ليس المهم فيه أن يكون مصنوعًا من خشب أو حديد، بل المهم فيه أن يفتح الباب المغلق، فإذا لم ينفتح به باب لم يكن مفتاحًا مهمًا اتخذ لنفسه من صور المفتاح" (من زاوية فلسفية – دار الشروق ص 207).