28-يونيو-2016

(ستانيو مودياخور/Getty) بنية التسول تفضح بنية النظام، وصم جبينه بالعار

شعر أصدقائي بالصدمة فقد شاهدوني أثناء ما أسموه "إلقاء محاضرة خشنة في الشارع" لصبي في الثانية عشرة، يعمل سائسًا للسيارات بالمشاركة مع نحو ستة آخرين في شارع واحد. قلت له إن هذا العمل ليس سوى تسول مقنّع، وإن ثمة مهنًا كثيرة قد تعطيه الآن أقل بكثير، ولكنها ستعطيه في المستقبل أكثر بكثير وتحفظ له كرامته وحقه في الشعور بالمساواة.

ثمة شيء غير طبيعي في نشر ثقافة التسول بهذه الشدة، وكل من يسهم في نشرها هو جزء منها

ضحكوا كثيرًا بعد ذلك على هذا الكاتب الحالم الذي يعيش في برج عاجي بعيدًا جدًا عن الواقع، وظل بعضهم يقلّدني ساخرًا حتى الآن. غير أني سأفعلها كل مرة أقابل فيها مثل هذا الصبي، فلا بد أن يفهم شعبنا، وحتى الصبية في هذا البلد، أن ثمة شيئًا غير طبيعي في نشر ثقافة التسول بهذه الشدة، وأن كل من يسهم في نشرها، ولو بالصمت، هو جزء منها.

اقرأ/ي أيضًا: حسن الذي أساءَ فهمَ الصخرة

لا ينافس وفرة المسلسلات والبرامج السخيفة في رمضان سوى أعداد المتسولين الذين يتكاثرون في الشوارع بصورة خطيرة. يباغتونك بحيل وروايات فيها من الخيال الواسع ما ينافس السيناريوهات الهوليوودية، يستجدون مروءتك لإنقاذ الطفلة التي تجري لها عملية مكلفة أو شراء دواء لا يقوون على ثمنه، أو إطعام ذلك الطفل على كتفها والآخر الذي يمسك بيدها.. إلخ. 

وما إن تعطي واحد حتى ينبثق أمامك آخر ويلتف غيره حولك وكأنهم كانوا ينتظرون نتجة الاختبار. أما التسول المقنَّع فلا تقابله في الطريق العام وإنما في المجال العام: في المصالح الحكومية، وفي مؤسسات الدولة التي لا تشبع من إلحاحها على "نَتْش" ما في جيوب المواطنين، وفي كثرة من المهن والظروف.

ينتشر التسول أكثر في رمضان وهو ما يدل على الطبيعة المنظّمة لهذه "المهنة"، ولكن النشاط يتزايد بصورة مرعبة في هذا الوقت من العام، لأن بعضًا من أفضل الناس حالاً يتحولون مع الوقت إلى متسولين فعليين، فتستطيع أن تختبر مهارتك في الحساب والعدّ أثناء جلوسك في بيتك أو أثناء مرورك في الشارع لتحسب كم عدد الأشخاص الذين مرّوا عليك اليوم طالبين "حاجة لله". يضحك الناس على أنفسهم ويظنون أنهم يفعلون الخير. حتى عندما تعطي سيدة شابة تحمل طفلًا رضيعًا في يد وعشرات المناديل في اليد الأخرى لـ"بيعها" لأصحاب السيارات والمارة الذين يبدو عليهم بعض اليُسر. فأي قدر من التفكير الجاد يقودنا إلى نتيجة مخالفة تمامًا: منح هذه السيدة بعض المال هو مشاركة في صناعة جبارة وفي ثقافة أشد جبروتًا، تحوّلنا إلى مجتمع متسولين.

صار التسول سبة في جبين أنظمة الحكم المتعاقبة في مصر، نظرًا لاستمراره على مدى عقود. وربما يرى فيه البعض نوعًا من الاحتجاج ضد الدولة وأغنيائها معًا، بعد أن تسببت السياسات الحكومية في العقود الأخيرة في اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزيادة أعداد العائشين تحت خط الفقر "30 مليونًا بحسب إحصاءات رسمية". ولكن هنا يصبح التساؤل مشروعًا حول متى وكيف تحول إراقة ماء الوجه من فعل شائن مستقبح مجتمعيًا وتاريخيًا إلى سلوك اعتيادي مبرر، وربما وسيلة أساسية لكسب العيش؟

صار التسول سبة في جبين أنظمة الحكم المتعاقبة في مصر، نظرًا لاستمراره على مدى عقود

فما الذي فعلته الدولة لمواجهة ظاهرة التسول؟ وما الذي فعله الأغنياء لتخفيف حدتها؟ وهل يمكن اتخاذ تدابير عملية للتصدي لمهنة التسول؟ المشكلة متعددة الأوجه. فثقافة التسول تنشر بسبب الافتقار إلى مؤسسات أهلية وحكومية نزيهة ومحترفة تقدم للفقراء الحقيقيين تدريبًا جادًا يمنحهم مهارات عالية تعينهم على كسب رزقهم من دون مد أيديهم لأحد. ولكن الجانب الثاني في الأهمية مباشرة هو أن التسول -بشتى صوره- يولِّد دخلًا يزيد عدة أضعاف عما يولده حتى بعض المهن الماهرة، ويشجع ذلك الناس على ترك الطريق الصحيحة والذهاب مباشرة إلى التسول.

اقرأ/ي أيضًا: على الإمبراطورية اللاتينية أن تثأر

وعبثًا تحاول إفهام الناس أن التسول مؤسسة حقيرة من ناحية العائد الاجتماعي السلبي، وكذلك من حيث العدالة التوزيعية، فالمتسولون ليسوا هم المحتاجون ومهنة التسول هي الأقل عدالة من حيث توزيع الفرص. ولا نكاد نستطيع إقناع الطبقة الوسطى العليا بأن ممارساتهم وأفعالهم يعكسان جهلًا بفكرة الخير وبكيف يصنع المرء خيرًا حقيقيًا. ويكاد المرء يفقد عقله من ضآلة المعرفة في مصر بضرورة بناء منظمات متخصصة لتقديم الخير من خلال التدريب وتوسيع فرص العمل المُدرّ لدخول حقيقية وعالية، وفقط في بعض الحالات الضرورية يتم منح المساعدات المالية المباشرة بما يضمن العدالة.

وكثيرًا ما يقولون لك إنهم لا يثقون في هؤلاء الذين يقومون ببناء وتشغيل هذه المنظمات، وعندما تقول لهم لماذا لا يتصدون هم إذن للمهمة تكون إجابتهم "تبريقًا" في عينيك والذهاب لأقرب متسول ليحصلوا على حسنة مباشرة، ويُرضوا حِسّهم التكافلي أو هكذا يظنون. وحتى أكثر الناس وعيًا يتورّطون في تشجيع صناعة التسول باسم "الواقعية"، وهو أبعد ما يكون عن التفكير بشأنها.

ثمة طبقة فاسدة في القمة، وتنشر الفساد في القاعدة بتسميات كثيرة وعادات أكثر، ويبدو أن غايتها هي تحويل مصر كلها إلى مجتمع من المتسولين. وبئس الواقعية التي تتصالح مع هذا الواقع!

اقرأ/ي أيضًا:

الربيع الأوروبي.. بداية لتفكيك القارة العجوز

بريطانيا العظمى بين الخيال والحقيقة