04-فبراير-2017

أحد المتسولين يتلقى الطعام (Getty)

كنتُ في وقت قريب، مُداومًا على ملحقة "المكتبة الوطنية الجزائرية"، التي فوق قصر الحكومة، في الجزائر العاصمة، وبالتالي فقد كنت أسلك يوميًا الطريق الذي يربطها بساحة موريس أودان، حيث كنت أرى كهلًا مهبولًا لا يُحرج أحدًا، ما عدا أنه يمدّ لك يده صامتًا، فإن أعطيته شكرك بدعاء خاص جدًّا: "الله يزوّجك"، فكأنه انتبه إلى أنّ كثيرًا من الشّباب الجزائريين والعاصميين تحديدًا محرومون من الزّواج، حتى أنّ نسبة العانسات تكاد تقارب ربع إجمالي عدد السّكان، وإن لم تعطه مضى إلى حال سبيله دون أيّ تعليق.

أيُّ عقل مثلًا لرجل يحرم زوجته من حذاء، وابنته من عطر، ويصرف على امرأة عابرة للّيل، ولا يعرف عنها شيئًا؟

ولأنني كنت أيامَها أتوق إلى أن يستجيب الله لدعاء ذلك المهبول، فإنني كنت أتعمّد أن أمرّ بالقرب منه وأعطيه شيئًا، وبالتراكم أصبح يأتي إليّ مبتسمًا كلما رآني، ويروح يعانقني وهو يدعو لي بالصّلاح والفلاح والزّواج، فكان طيب دعائه يجعلني أنسى فداحة رائحته.

ثم إن فضولي دفعني إلى أن أستغلّ حميميته معي في معرفة عالمه الخاص. أحيانًا نخوض تجاربَ في الحياة تجعلنا نقف على خراب كثير من الأحكام الجاهزة التي نحملها عن الوجوه والاتجاهات والجهات، منها أن المجانين لا يحتكمون إلى منطق معيّن.

يومها كنت أقرأ موسوعة ميشال فوكو عن الجنون، لقد جعلني صاحبي المهبول هذا أقف على العكس تمامًا، إذ كان تطبيقًا حيًّا لرؤى فوكو، كلّ ما في الأمر أن هناك إجماعًا عامًّا على أنّ فلانًا عاقل، وذاك مجنون، لكننا إذا اعتبرنا بالأفعال، فإن العاقل يصبح مجنونًا والمجنونَ عاقلًا.

اقرأ/ي أيضًا: تداع حر في عالم يتهاوى

أيُّ عقل مثلًا لرجل يحرم زوجته من حذاء، وابنته من عطر، ويصرف على امرأة عابرة للّيل، ولا يعرف عنها شيئًا؟ منه فقد أصبح حديثي إلى محمود طقسًا يوميًا، إلى درجة أنني فكرت في أن أسجّل أحاديثي معه، قصد إصدارها في كتاب، عملًا بالأثر القائل: "خذوا الحكمة من أفواه المجانين".

كنت أقرأ موسوعة ميشال فوكو عن الجنون، لقد جعلني صاحبي المهبول هذا أقف على العكس تمامًا، إذ كان تطبيقًا حيًّا لرؤى فوكو

كان يرمي الخبز للحمامة، وهو يعاتبها: "لماذا لم تجلبي لي معك شيئًا من السّماء؟ أسوأ ما يمكن أن يقع فيه مخلوق أن يأخذ ولا يعطي". ويرفض أن يأكل الفاكهة، لأنها ابنة المعوقة، يقصد الشجرة التي لم يرها يومًا تغادر مكانها، ويضحك حين أدعوه إلى أن يرافقني إلى الحمّام ليغتسل، طالبًا منّي أن آخذ الشّارع معي، فهو موغل في الاتساخ، إلى درجة أنه مصدر الوسخ الذي أدعوه إلى التخلّص منه. وكان يحفر بئرًا في الهواء، وحين أسأله عن جدوى ذلك، يقول واجمًا: وما فعلتم بالآبار التي حفرتموها في الرّمل والتراب؟

كان يصرف النقود التي يجمع في الأكل والشّرب، وما بقي منها يعطيه للصّغار، إذ رأيته أكثر من مرّة يعطي قطعًا نقدية للأطفال، وهو يزوّدهم بنصيحة ثمينة: "اقراو مليحْ"، أي ادرسوا جيّدًا، ثم فجأة أصبح يصرفها على عادة جديدة لم تكن تخطر له على بال، إذ تعرّف على شابٍّ من الحومة زرع في رأسه دودة الحشيش، بحيث يأخذ منه كلّ ما يجمع من صدقات ويعطيه حشيشًا، وغالبًا ما يكون المال أكبرَ من قطعة الزطلة، هكذا يُسمّى الحشيش في الجزائر، فلم يعد يعني محمودًا إلا أن يحشّش، وبدأت ألاحظ تغيّرًا في سلوكاته، وفي "تفكيره".

لقد أصبح عدوانيًا وبذيئًا وقليل الهدوء، ما اضطرني لأن أغيّر طريقي حتى لا ألتقيه، وأنا أدعو على هذا الصعلوك الذي جعلني أخسر صديقي الحكيم، وبالتالي أخسر مشروع تأليف كتاب معه.

اقرأ/ي أيضًا:
ميمونة تعرف ربي.. ربي يعرف ميمونة
نكرهُ العمل.. يا رفيق لينين ما العمل؟