24-يناير-2017

مسافرون ينتظرون في خط مترو باريس (Getty)

في المترو يمكن أن تموت وحيدًا. لن ينتبه أحد على أي حال. سيتدلى جسمك على المقعد، وقد يمر ركاب من جنسيات مختلفة في يوم كامل، ولن يلحظوك. قد يكتشفك (وهنا احتمال وحيد) فقط بعد منتصف الليل عمال المحطة. وهم يتفقدون الرحلة الأخيرة.

ستكون قد تحولت إلى كائن منسيّ وذابل. سيستلم جثتك رجال الشرطة. يتفحصونها بعناية. ربما سيكون أول تقدير لديهم، أنك جثة مفخخة. خصوصًا إذا كنت من بشرة حنطية أو سمراء داكنة. سيرون إن كانت لديك "سحنة" المشرقيين والمتوسطيين أو أولاد شمال أفريقيا. حينها ربما قد تخضع لتحقيق سوريالي.

أن يصرخ أحدهم أو يبكي في إحدى مقصورات مترو باريس، فهو أمر في غاية العادية. لا أحد يفكر في أن يلمس يدًا، أو يهدئ من روع الآخر

على أي حال، ستوضع برفقة شرطي هزيل، في غرفة مقصية، باردة، في مسشتفى غير معروف. قضائي، وهجين. مستشفى يخضع لحراسة مشددة. يحوم في داخله رجال بألبسة مدنية، ولا أهل ولا جيران ولا أطعمة. فقط أسئلة طويلة ودفاتر للملاحظات وكلمات ضئيلة، حول هويتك.

اقرأ/ي أيضًا: الأمل بين فيلم Love Rosie وفيلم 500 days of summer

ستتحول إلى رقم مضاف، في لائحة من عشرات الذين يموتون في المترو. من المشردين المتروكين في البرد، أو مقدمي اللجوء الهاربين من مآسي بلادهم، أو السكارى المحطمين الذين لا ملجأ لهم.

أن يصرخ أحدهم، وينازع، ويتقيأ، أو يبكي في إحدى مقصورات مترو باريس، فهو أمر في غاية العادية. لا أحد يفكر في أن يلمس يدًا، أو يهدئ من روع الآخر.

الحياة قاسية، وتمر بسرعة، ولا وقت يمكن تضييعه على الغرباء. ونحن ركاب "المترو" جميعنا غرباء، لا نعرف أحدًا. وإن حدث وعرفنا أحدهم نستعجل في إلقاء التحية عليه.

لا وقت في باريس لنستمع إلى رواية أحد، أو لنقف مذهولين من حادثة. الأشياء تتراكم سريعًا، وتموت بشكل أسرع. لا حيلة لنا في إنقاذ الكائنات من روتين معلن، يضمر فيه الجميع كآباتهم أو يأجلونها. إنها حقيقة مرّة، يمكن أن يكتشفها سكان مدينة الضوء.

الزائرون يكتبون عن المدينة، مطولات حول سحرها. أماكنها الجميلة، وألوان ضبابها، وأرصفتها، وأطعمتها المنوعة، ولهجات، ولغات المقيمين فيها.

اقرأ/ي أيضًا: سيرة ذاتية متنها رضوى

إنهم يعيشونها لأسابيع، ويحبون تكرار التجربة. لم يدخل هؤلاء يوميات المترو المعذبة. لم يقتفوا أثر العمل لساعات طويلة، لا يجد فيها أي شخص، وقتًا لمتعة التسكع أو الخروج.

لا وقت في باريس لنستمع إلى رواية أحد، أو لنقف مذهولين من حادثة. الأشياء تتراكم سريعًا، وتموت بشكل أسرع

يضبط الجميع يومياته، وأنفاسه، وحتى تعاملاته وحدودها، كي لا يخسر لحظة. اللحظات ليست سعيدة. إنها مملة للغاية، رتيبة، وفيها شعور بزيف الرضا. لكنها لحظات لا يمكن التخلي عنها بسهولة. لذا لا أحد يمكنه أن يسمع في المترو، أو يلحظ ما يمر أمامه، أو يتفاعل مع حدث ولو هائل. حتى لو كان تفجيرًا، أو قتلًا عمدًا في الشارع.

الدم آخر شيء يمكن أن يثير الانتباه في باريس. المرء مغطى بهالة من العماء. إنه يمر في سيركه الشخصي. يرقص فيه وحيدًا، مثل الدببة.

الكل يسرع الخطى. الزمن شخص أيضًا، يتجول في مقصورات المترو. يقف فقط. مثله رجل أبيض بنظارتين. وامرأة مسنة، وأطفال يقرؤون قصص "تانتان" المصورة. رحلة لا ينغصها مشهد متسول أو متشرد، أو حتى عجوز يحكي مع نفسه.

في مترو باريس، قد تموت وحيدًا، لأن البرد قارس.

اقرأ/ي أيضًا:
نكرهُ العمل.. يا رفيق لينين ما العمل؟
في الحاجة إلى "جريندايزر" فلسطيني!