06-سبتمبر-2018

فوتوغرافيا لـ أكرم زعتري/ لبنان

1

أريدُ أن أبكي، لا لأنّ زلزالَ حزنٍ مفاجئٍ ضربَ بنية هشاشتي التحتية فكسرني وجعلني أهتزّ بالدموع، ولا لأنّ بركانَ غضَبٍ مراوغ فجّر فيَّ حمم السخط الحمراء، وجعلني انفجرُ بالدموع، ولا لأنّ فيضانَ فرحٍ مباغتٍ حفّز فيّ رغبتي في إطلاق الزغاريد على الطريقة الدراماتيكية، بالدموع لا الضحكات. أريدُ أن أبكي لأنّ البكاء ظاهرة طبيعية عادية، تحدث بلا مقدمات منطقية، أو أسباب تفسيرية، سوى الحاجة للتنفيس، للفظ تراكمات المشاعر السلبية خارجًا. الأرض والجبل والنهر؛ جميعها تنفجر في لحظة ما، جميعها تبكي وتُلقي بتراكمات المشاعر السلبية خارجًا؛ تبكي الأرضُ زلزالًا، يبكي الجبلُ بركانًا، يبكي النهرُ فيضانًا، وأنا أريدُ أن أبكي، أحتاج أن أبكي، إنّني أحتاج إلى البكاء كما تحتاج الأرض للزلزال، كما يحتاج الجبل للبركان، كما يحتاج النهر للفيضان. البكاء ظاهرتي الطبيعية، وحاجتي الإنسانية للانفجار. وكما تهدأ الأرض بعد الزلزال، ويستعيد الجبل توازنه بعد البركان، ويعود النهر إلى استقراره بعد الفيضان، أريدُ أن أبكي، ليهدأ داخلي، ولتستعيد روحي توازنها، ولتستردَ نفسي استقرارها، ولأخمدَ أنا بالبكاء رغباتي الداخلية المجنونة وهوسي الدائم بالتشظّي والانفجار.

 

2

قابعةٌ داخل لحظة حزني أفكّر في كلّ ما يحصل خارجها، في دورة الحياة التي تدور غير آبهةٍ بها وكأنّها لا تعنيها في شيء، إنّها لحظة حزني المقدّسة التي أرغبُ في إيقاف دورة الحياة من أجلها، أريد أن تتوقّف السيارات عن المشي، وتحجم العصافير عن الزقزقة، وتخرس ضحكات الناس، تنطفئ أصواتهم وتسكن حركاتهم، وسأدافع عن رغبتي هذه ضدّ كلّ من سيتهمني بالنرجسية، سأقول بأنني أريد أن أؤسّس من لحظة حزني هذه إمبراطورية تدخلها كلّ عناصر الكون من أكبر مخلوقاتها إلى أصغر ذراتها، لتكون لحظتي المقدسة عنوانًا لوحدة الوجود.

 

3

شيءٌ ما في حزنكَ يدفعني لاستنطاقه دائمًا، شيءٌ ما فيه يدفعني للتعمّق فيه، لمعرفته أكثر؛ ما شكله؟ ما حجمه؟ ما لونه؟ ما أسبابه؟ ما خفاياه؟ ماذا يُخبّئ عني في جيب خيفته وتوجّسه مني؟ بالمناسبة أنا أشعر أن حزنكَ يخافني، يتوجّسني ويهابُ قُربي منه، وتأمّلي فيه وتطلّعي إليه، وكأنّه لا يريد مني أن أكتشفَ سرّه. أجل.. فللأحزان أسرار، و"حزن عن حزن بيفرق"، ولأعود إلى حزنك؛ هذا الهادئ الصامت الخائف المتوجّس الذي لا تشتكي منه ولا تعبّر عنه بأيٍّ من الطرق التي أعرفها، أنتَ لا تكتب حزنكَ كما أفعل أنا، ولا تُغنيه كما يفعل غيري، لا تذرفه في دموعٍ مالحة، لا تملأ الدنيا بصراخ تأففكَ وضجرك لتشيرَ إليه، والأهمّ من ذلك كلّه أنّك لا تُحدّثني به لأتعرّف عليه، وكأنّك تخافُ مني أن أقتبسَ بعضًا منه أو أن أسرقَ شيئًا من ماهيته، وكأنّك تخشى فيّ هوسي في التبحّر فيه وفي تفاصيله. وأنا أطمئنكَ الآن، ليست في نيتي أن أستنطقَ حزنكَ لأسرقَ أفضل ما فيه وأضيفه إلى حزني فيكون حزناً بمواصفات عالمية خاصة، أريدكَ أن تُشاركني فيه فقط، أريده أن يغدو حرّاً معي وبي، فالأزرق لا يليقُ إلا بالحزن، والحزن لا يليقُ إلا بالأزرق، لا تكن من أولئك الذين جعلوا من أحزانهم عبيدًا لديهم، فأغلقوا عليها أبواب أقفاصهم الصدرية ولم يسمحوا لها بالخروج والتعبير والشكوى، إنّني أتطلّع إلى حزنكَ الآن فأسمع شكواه من عدم شكواك، هيا اشكوه لي لينجو من أقفاصه، ليتحرّر، ليطير، ليغدو حزنًا حرًّا، اشكوه لي بالكتابة، بالغناء، بالصراخ، بالتبرّم، أو لأختصرَ عليكَ الطريق، أدفن رأسكَ فيّ وأبكي، أبكي كثيرًا، ابكي حتى تنسلّ أسرار حزنكَ وماهياته عميقًا في داخلي، فيصطبغَ بلونه الأزرق ويغدو حرًّا.

 

4

عندما نخرج عن أدبيات الحزن، نعمل على تهميش حزننا داخلنا، لا نبكي آنيًا، وننتظر الانفجار الذي يأتينا بالدموع، ثمّ نبكي بعدها، نبكي كثيرًا، ليسَ لأنّنا ما زلنا على نفس حزننا، بل لأنّ حزنًا آخر تسرَّب إلينا وجعلنا حزينين على حزننا الأوّل، ذاكَ الذي همّشناه في البداية ولم يأخذ فينا موضعه في المتن الذي يستحقّه.

 

5

لو أنّ المرأة الزرقاء التي تسكنني تتخلى عن نرجسيتها قليلًا، لعرفتْ أنّ ملمح الحزن الأزرق الذي يطغى على وجهها ليسَ شيئًا فريدًا من نوعه، ولا متميزًا في فرادته، إنّه ملمحٌ تشترك فيه وجوه جميع النساء من أسعدهنّ إلى أكثرهنّ بؤسًا وشقاوة، إنّه ملمحٌ مكتوبٌ على جبين نساء الأرض جميعًا، يجيءُ معهنّ في لحظة الولادة الأولى، يُدمغ على وجوههنّ كعلامة فارقة، كإشارة مميزة، كملمح خاصّ، كلّ ما فيه يُنبئهنّ بحقيقة الأرضية المشتركة التي تجمعهنّ بحكم الجنس والطبيعة الأنثوية، وكلّ ما فيه يُبلغهنّ أنّه لعنتهنّ الأبدية، وتاريخهنّ المشترك، هذا التاريخ الذي يجتمعنَ على قاعدته وتُنسينهنّ نرجسيته حقيقته. إنّه تاريخ المرأة الزرقاء النرجسية التي تسكنُ في كلّ واحدةٍ من النساء على هذه الأرض، وتقول لها أنّها فيها الفريدة والوحيدة، والنادرة والشاذة، فلا حزن كحزنها، ولا ألم كألمها، ولا وجع كوجعها.

آه أيتها المرأة الزرقاء المؤبّدة التي تسكنني أنا وكلّ واحدةٍ غيري على هذه الأرض، ليتكِ تُخفضين صوتَ نرجسيتكِ قليلًا، ليتكِ تطلقينَ/تقولين دندنات/مقولات الحقيقة في آذاننا نحن معاشر اللواتي تسكنينهنّ، فتغنين لنا تارة: "أبديةٌ زرقاء تحملنا"، وتقولين لنا تارة أخرى: "إنّ تاريخ المرأة استشهادٌ طويل"

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيس خبز فارغ

على رقعة شفّافة من السيلكون

دلالات: