06-فبراير-2018

آرام خالد الرز/ سوريا

على الرغم من أنّ ما يقال عن العزوف عن الشعر بات أقرب إلى الحقيقة التي يُسلّم بها الجميع، إلّا أن الجملة التي تبني تلك المقولة ناقصة، وستبقى كذلك، ما لم نقل إن العزوف يقتصر على شعر الحداثة وما بعدها، فهناك أشكالٌ شعريّة لا تزال حاضرةً بقوّة، وتحتل مساحات من وجدان الناس، في مختلف البلدان والبيئات العربية.

تواصل قصيدة العمود تمدّدها القوي في أوساط مثقفي الدين والتراث العربي

نرى ذلك في الأزجال الشعبية التي يتشبّث بها المصريون، كـ"السيرة الهلالية" في منطقة الصعيد مثلًا، حيث تواصل الحضور كميراثٍ لا يتوقّف عن تجديد تقاليده وسلالاته. الأمر ذاته يحدث للشّعر النبطي، في منطقة الخليج العربي، وهو يحافظ على بنائه الصارم الذي يقارب "لزوميّات" المعري من جهةٍ، ويكرّس تياراتٍ وتجارب من جهة أخرى. كذلك الحال في العراق، مع مدارس "النايل" و"الزهيري" و"الأبوذيّة".. إلخ، فمهما تعدّدت الأشكال تجدُ شعراء يكتبون وأناسًا يحفظون. ولا يختلف الأمر في بلاد الشام، فشعر "العتابا" يكاد يوحّد فلكلورات المناطق السورية المختلفة، وفلكلورات فلسطين ولبنان والأردن، وخلال ذلك كلّه ستراه يلتقي بأشكال الشعر الشعبي في العراق، التي تلتقي كلها في فضاء الموشّح. أما في بلدان المغرب فتجتمع أشكال "الأهلَيل" و"الشتاوة" و"الحسانيّ".. وسواها، لكي تصنع تواشجات خاصّة مع الشعر النبطي، ما يبني صلات سريّة مع قصيدة العمود.

اقرأ/ي أيضًا: الشعر روح الرفض في زمن الاستبداد

على التوازي من ذلك، تواصل قصيدة العمود تمدّدها القوي في أوساط مثقفي الدين والتراث العربي، فهؤلاء لديهم رموزهم ومدارسهم وكتبهم ومروياتهم، وعلى الرغم من سلطتهم على الوجدان العام، إلا أنّه لا يجري الاعتراف بهم خارج دوائرهم، فوسائل الإعلام والصحافة الواقعة تحت سيطرة مثقفين بمرجعياتٍ غربية تتصادم مع أشكال التفكير والتعبير التقليدية. هي فعلًا مفارقة غريبة؛ قصائدُ تقليديةٌ بالفصحى والعامية يحفظها الناس لا تجد منابر، وشعرٌ جديدٌ عزف عنه الجميع، باستثناء ممارسيه، يستحوذ على المنصّات الثقافية والإعلامية، وكأنها مصنوعة لأجله!

بين الفصيح والعاميّ صراع معجميّ حامي الوطيس، على الرغم من أن العاميّات اشتقّتْ من الفصحى ولم تتمرّد عليها، ولا تزال تتبعها قواعديًّا وصرفيًّا. قد تأخذ الكلمة العاميّة معنى يختلف عن معناها في الفصحى أحيانًا، لكنّ ذلك يحدث أيضًا بين مفردات الفصحى نفسها بين لهجات الجزيرة العربية المتنوّعة. الفارق هشُّ بين مفردات القاموسين فالكلمات العامية فصيحةٌ باختلافٍ أصاب اللفظ. تُستثنى من هذا الكلمات الدخيلة، وهذه حالة عامة في مختلف اللغات.

للصراع تجلٍّ على صعيد الشكل، فحيث تستند الأشكال الشعريّة الشعبيّة كلّها إلى عمود الشعر الكلاسيكي، يصبح ما تُجدّده شكيًّا تردادًا لأصداء حركة تجديد القصيدة الكلاسيكية على مرّ العصور، خصوصًا في ما شرع به الموشّح حين راح يوسّع المساحة، منطلقًا من مبدأ وحدة البيت التي يبني تتابعها جسدَ القصيدة، لجعل هذه البيت وحداتٍ متعدّدة في ذاتها.

وفي جانب درامي من هذه الصراعات، سيتحالف الفصيح والعاميّ تحالف الضرورة على جبهة الوزن، واعتباره حدًّا فاصلًا بين الشعر والهراء، ما يعني بديهيًّا طرد قصيدة النثر خارج فردوس الشعر.

قصيدة النثر بدورها تحمل في داخلها صراعاتٍ متعدّدة، بين الشعر والنثر، بين الشفهي والمكتوب

قصيدة النثر بدورها تحمل في داخلها صراعاتٍ متعدّدة، بين الشعر والنثر، بين الشفهي والمكتوب، بين الأصيل والوافد. أثار كلٌّ من هذه الصراعات من الجدل ما يملأ أنهارًا، إلا أنّ الصراع في مستواه بين الشعر والنثر يحيل إلى صراع خاضه القرآن، من حيث إنه نصّ نثري، مع بيئته المشبعة بالشعر، من حيث إنه نصّ موزون، في زمن التأسيس الإسلامي، ورغم انتصار الإسلام وانتشاره ووصوله إلى عرش المرجعية الفكرية والروحية، إلا أنّه لم يفعل ما فعل بغير محاكاة الشعر. أخذ من الشعر شعرًا هنا، وأضاف إلى الشعر نثرًا هناك، إلى أن أصبح مستوعبًا للفنين، جاعلًا منهما جزءًا من كلّ.

اقرأ/ي أيضًا: الشعر السوري في الشتات: قراءة في رؤى نقدية (1- 2)

لا يُقرأ الشعر الجديد بما يُرضي أصحابه ويشعرهم بالجدوى، لا لانقطاعه عن فضائه الثقافي كما يتهمه خصومُهُ، بل لكون الانقطاع عنه رأيًّا عامًّا أعمى لا يُدقّق في سياق الثقافة العربية نفسها، لكنّ الأسوأ أن يتبنى الشعراء الجدد تلك المقولة، بحيث تصبح نهاية الشعر تبريرًا مريحًا للفشل، ليأتي فعل تعميمه على الثقافة كلّها أقرب إلى الإسقاط النفسيّ.

القرآن، فنيًّا، حلٌّ لمشاكل شعراء قصيدة النثر، إذا ما أصبح اعتبار الكتابة كيانًا تتداخل في بنائه الأشعار والأزجال والمرويّات، بما يوطّد جذورًا تحتاجها هذه الكتابة السّابحة في الفراغ، نتيجة هزائمها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تشارلز سيميك والكتابة في العتمة

قصة الشعر الافتراضية