02-ديسمبر-2021

الفنانة شذا شرف الدين

معرض شذا شرف الدين في "مركز مينا للصورة" ببيروت. موضوعه كتاب فرانز كافكا "رسالة إلى الأب" بلغتيه الألمانية والعربية. افتُتح المعرض في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر ويستمر حتى الثلاثين من كانون الأول/ ديسمبر المقبل.


لم أتحسر على حضور عرض فني في بيروت التي تقع في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية بمقدار تحسري على عدم تمكني من معاينة عرض شذا شرف الدين "رسالة إلى الأب". وهذا الأمر يثير حيرة عميقة في نفسي. فعمل شذا ليس عملًا بصريًّا بالمعنى المتعارف عليه. هو عبارة عن إطارات ثُبت فيها ما نسخته الفنانة بخط يدها وبلغات مختلفة، من رسالة كافكا إلى أبيه. وأحد هذه الإطارات -اللوحات يمتد على طول الحائط لخمسة أمتار. خمسة أمتار من الورق الذي لونته الفنانة بكلمات كافكا بخط يدها. كم هما احتاج هذا العمل ليتم إنجازه؟ كم صبرا أنفق عليه؟ وحين يعرض، فإن أحدًا لن يقرأه طبعًا. لا يسع زائر معرض أن يقرأ كتابًا منسوخًا وهو واقف. سيكتشف الزائر أن المكتوب ليس هو الموضوع. لذلك ستحيلك الفنانة إلى رسالة كافكا إذا كنت تريد القراءة. وهذا ما يجدر بك إنجازه في البيت. ما تعرضه الفنانة كما يتراءى لي، هو بالضبط حركة يدها الدؤوبة، وهي تنجز ما يعجز أي مخلوق على إنجازه. ذلك أننا جميعًا نريد إرسال رسائل إلى أحد ما، قريب أو حبيب أو أب أو أم. لكننا لا نملك الوقت لكتابة الرسالة، نكتفي بأن نلقي السلام، ونسأل عن الأحوال، ثم نترك للآخر أن يخمن مشاعرنا.

رسالة كافكا إلى أبيه هي رسالة لم ترسل. لم تصل إلى مقصدها. لكن رسالة كافكا التي خطتها شذا شرف الدين وصلت على الأرجح

رسالة كافكا إلى أبيه هي رسالة لم ترسل. لم تصل إلى مقصدها. لكن رسالة كافكا التي خطتها شذا شرف الدين وصلت على الأرجح. تسخير كافكا على هذا النحو المجهد، هو شأن كافكاوي أيضًا. إنما مع ذلك، ورغم كل الإشارات التي ترسلها الرسائل المنسوخة، يجدر بي أن أتساءل: من أين تأتي هذه القوة والجلد والشجاعة على إنجاز عمل مضن إلى هذا الحد، ويعرف صانعه أن رسالته ستصل قبل مشاهدته، وأحيانًا من دون الحاجة إلى معاينته، كما هي حالي مثلًا؟

اقرأ/ي أيضًا: معرض "محلات".. سيرة بصرية لماضي الدوحة

بدا لي أن شجاعة شذا تشبه شجاعة محتضر. تقول ما تريد قوله، وتعرف أن تبعات ما قالته لن تطالها على أي وجه. واستنادًا إلى هذا التقدير، خمنت أن الفنانة تؤكد لنا نحن المتملقين، أنها لم تعد تملك ما تخسره. فتطلق ما تريد قوله كسهم، ولا تنتظر أن يستقر في قلب الهدف.

لم يمض يومان على هذا التقدير، حتى وجدته باهتًا. لأن السؤال الأصلي بقي بتولًا ولم يمس. لماذا تعرض ما نسخته ما دامت رسالتها وصلت منذ إعلان النية على إنجاز العمل؟ ثم في أي كهف كانت تمضي أيامها وهي تنسخ؟ هل كانت الحياة تسير خلف نافذتها على جاري عادتها؟ أم أنها كانت تراقب العالم من حولها وتراه يشبه عالم ساراماغو في "العمى"، وهي المبصرة الوحيدة فيه؟ إذًا، يجدر بي أن أتقرب من همها أكثر. يمكنني أن أتحدث إليها، وألقي هذا الهم عن كاهلي إلى كاهلها. لكن كاهلها مثقل حتى الثمالة. لقد أنجزت عملًا لا أجرؤ أنا أو غيري على التفكير فيه حتى في المنام. وهو عمل، لولا مصادفات كثيرة، كان يمكن أن يبقى حبيس خزانتها. كل هذا الوقت الذي أنفقته في تطريز الرسائل يعادل حياة صغيرة. من منا يستطيع أن يخصم من سنواته وقتًا متسعًا لتطريز كتاب بخط صغير على ورق؟ والحال، هذا العمل لا يريد إيصال رسالة ما. تمامًا، إنه أشبه برسالة إلى ميت. ليس مهمًا أن يتلقاها، المهم أن منجزها سدد دينه تجاه هذا الوجع. مرة أخرى، أكتشف أن هذا التقدير الجديد ليس في مكانه تمامًا. الرسالة إلى ميت يمكن أن تصلنا نحن من دون حاجة لإثبات أن كاتبتها قد كتبتها، وتأكيدا لذلك علقت النسخة على الجدار. ما زالت صدفة السؤال الأصلي صلبة ولم تمس. قد أكون خدشتها قليلًا لكنني لم أكسرها حقًا.

حسنًا، يجدر بي أن أتقرب منها أكثر. فلأرسل لها رسالة. فلأقرأ ما تقوله عن نفسها. والنتيجة: ما زالت الصدفة لامعة كالرخام، ولم تمس أبدًا.

شجاعة شذا تشبه شجاعة محتضر. تقول ما تريد قوله، وتعرف أن تبعات ما قالته لن تطالها على أي وجه

اقرأ/ي أيضًا: حين نخنق من نحب.. فيروز مثالًا

الآن، وبعد كل هذا اليأس، يجدر بي أن استسلم له، أي اليأس: ما صنعته شذا شرف الدين، هو رسالة لي أنا المتلقي. رسالة تصل مباشرة إلى القلب. مفادها وفحواها يقولان لي بوضوح إن البوح، إذا صح التعبير، لا يمكن أن يكون صادقًا، إلا باختبار معاناته. وإذا شئت أنا المتلقي الاستماع لهذا البوح، فيجدر بي أن أعيشه لحظة بلحظة، ودمعة بدمعة، وضحكة بضحكة. وعليه، أعلن أنا المقيم في آخر الدنيا، أنني لن أنجح في حيازة ثقتها اللازمة للبوح، وكان يجدر بي أن أقرأ الرسالة المعلقة على الجدار حرفًا حرفًا حتى أستحق أن أحيط بها وأقول رأيا فيها.


بدأت شذا شرف الدين مسيرتها المهنية في مجالي التربية وفن الأداء قبل أن تنتقل إلى الفنون البصرية والكتابة. حائزة على ديبلوم في التربية المختصّة من مركز "لا برانش" في سويسرا، وعلى ديبلوم في فن الأوريتمي من "مدرسة هامبورغ للأوريتمي" في ألمانيا. من أعمالها البصرية: "كوميديا إلهية" (2010)، "خفة المشاهدة التي لا تُحتمل"، (2012) و"ميدام" (2018). في الكتابة، صدر لها عن "دار الساقي" في بيروت: "فلاش باك" (نوڤيلا، 2012) و"حقيبة بالكاد تُرى" (مجموعة قصصيّة، 2015). تُرجمت "فلاش باك" إلى الألمانية وصدرت عن دار "إديسيون-كونڤيرسو" (2021).

 

اقرأ/ي أيضًا:

رسالة من إيتيل عدنان إلى رشيد قريشي: حنين المستقبل

أنصاب لبقايانا