22-نوفمبر-2021

جزء من لوحة لـ رشيد قريشي/ الجزائر

في شباط/فبراير 1988، كتبت الشاعرة والفنانة التشكيلية السورية - اللبنانية إيتيل عدنان، من مدينة ساوساليتو في كاليفورنيا، رسالةً للرسام والنقّاش الجزائري رشيد قريشي نُشرت في العدد الأول من مجلة أدب الجزائر/العمل (Algérie littéraire action)، تصف فيها تلك اللحظة الخالدة التي جمعتها أول مرة بأعماله في أحد معارض باريس، ففردت بياض أوراقها لتكتب بشاعرية عن تلك التجربة، كي تستفيض في كتابة إعجابها بما قدمه للفن المعاصر، وتثمينها لقدرته على إحياء فن الخط العربي الإسلامي.


العزيز رشيد،

يخيم الظلام على ذاكرتي، ولست أذكر على نحو واضح متى جرى ذلك... لقد كان ذلك في باريس منذ عشر سنوات على الأقل، رأيت في أحد المعارض أحد نقوشك. حروف سوداء كُتبت بريشة على خلفية كانت هي الأخرى مكتوبة، لم أكن قد تعرفت عليك بعد، يومها غمرني شعور مفاجئ بأنني أهبط على مساحة لا أعرفها، لكنها كانت موضوع اللقاء مثل مستكشف يكتشف غابة استوائية أو منابع نهر النيل.

الأمر في غاية البساطة، ففي مطلع السبعينيات كنت أبحث عن نشوء كتابة الرسم العربي، كنت أبحث بالأحرى عن كتابة معينة ونوعية للريشة والخط (حتى وإن ظلت مقروءة بشكل جيد).

نملك نحن العرب رباطًا مقدسًا مع الكتابة، إرثًا استخدم خصائص أبجديتنا بقوة النار، فالكتابة هي أثر النار على قطعة الورق

نملك نحن العرب رباطًا مقدسًا مع الكتابة، إرثًا استخدم خصائص أبجديتنا بقوة النار، فالكتابة هي أثر النار على قطعة الورق: نار العقل ونار الحبر، كنت أبحث عن هذا الجزء المنتصر والمحترق، أي عن هذا النصر الفكري الذي يحترق في نصره الذاتي، والتي وجدتها ذلك اليوم في عملك الفني، إذ هذا ما يعنيني ويهمني في نقوشك، قوة الاقناع، والشعور بالديمومة المستثمر بشكله المتناقض، الشعور بأن الخلود هو الذكاء.

اقرأ/ي أيضًا: إيتيل عدنان.. سفرٌ متواصل بين اللون والكلمة

سيقول البعض إن هذه هي خصائص فن الخط العربي الكلاسيكي، أجل أنت لست خطاطًا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، لكنك من الفنانين النادرين (أنت وشاكر حسن آل سعيد في بغداد على سبيل المثال) الذين يملكون كتابة مشوهة تستفز الصدمة الروحانية أكثر بكثير من تلك التي استفزتها المخطوطات القديمة ذات الكتابة المدونة بصرامة.

هذه السمات التي منحت لما كان يعتبر في هذه الثقافة من خصائص كلّ ما هو خالد ينقله مزاجنا العربي كذلك (واليوم) إلى ما هو حي، إن هناك كتابات معبرة في عملك الفني مثلما هناك الكثير من الشخصيات، لا اقصد الصورة (البورتريه) ولكن حضور الانسان الكائن الإنساني أصبح إشارة من الاشارات، فالإشارة بالنسبة لك قريبة الكتابة تنتمي إلى نفس العائلة، بالنسبة لنا كل شيء موجود في الكون وكل شيء تربطه قرابة، إذًا فشخصوك إشارات وحروفك السوداء تملك حضورًا جامحًا، وهي متواجدة دائمًا، ومحترقة أيضًا.

ذاكرة متفحمة لكنها حية

أولًا محترقة في وعيك السياسي كطفل حرب التحرير الجزائرية، وشابًا يافعًا بقلب محترق بالمأساة الفلسطينية، لقد رأيت النار وتفهمها فنحن محظوظون بذاكرة متفحمة لكنها حية، شخصياتك (وما يحيط بها) تولد على أعمالك في الوقت نفسه ميتة وحية، ليس بإمكانهم مطلقًا أن يموتوا ذلك أنهم ومنذ البداية ميتون، وفي هذا الموت يملكون حياة أبدية، فأنت ترسم الشرط الإنساني الأساسي.

تتحول الاشارة عندك بدورها إلى كتابة، إنها محملة بالمعنى لدرجة لا يكون فيها الرسم مبسطًا، لكن الفكرة قوة، الفكرة سلطة، والفكرة سحر.

إنك تضاعف بغضب الكتابة والإشارات، أعمالك مصابة بجنون التكرار والكل، تحبّ دومًا كتابة الحروف، الجمل، الإشارات والتضليل على الأشجار وعلى كل سطح، ولربما راودتك الرغبة في الكتابة على سطح من الهواء غير الملموس فلماذا؟ لما كل هذا الصراخ الذي هو بدوره صمت كلي، ذلك أن الماضي والمستقبل يطاردانك ولأن ضخامة الممكن تجذب طاقتك، لكن ثمّة شيئًا آخر، ربما يكمن في هذه الفورة، ثمة شك أن الحقيقة هي الأخرى مضاعفة، وأن أحد تمظهرات الحقيقة هو إشارة تكراراها، وأن الفنان هو محرر الإشارات، لا يمكننا تحرير أنفسنا ولا تحرير أقاربنا ولا تحرير النوع البشري، لكن سنحرر نظراءنا ونتحدث ونرقص ونغرق العالم تخريبًا صامتًا، وحين أقف أمام نقوشك أجدني ماثلة أمام مرآة.

إيتيل عدنان: لطالما أحببت في الفن الإسلامي وحدته المذهلة في تنوعه غير المتناهي: هذه المخطوطات التي تغطي الأقمشة أو الجدران أو الخزف المطلي

خرج عالمك من قطعة الورق ومساحة السطح، حروفك وإشاراتك ومعهما الأرقام انسكبت كالنمل تحفر على الخزف وعلى بلاط والجدران والزرابي دروبًا لمتاهة، بيد أن هذا التنميل بالنسبة لك ليس مطلقًا، فقد كان بالإمكان أن يخلق كابوسًا، بل إنه منظم ومتوازن من خلال مناطق عارية تمامًا كالموسيقى من خلال الانقطاعات والصمت، لدينا مقطوعات صارمة أين يلعب الفراغ الذي من غير الممكن أن يكون غائبًا دور المجيب.

اقرأ/ي أيضًا: أنصاب لبقايانا

ما أثمنه كثيرًا في عملك الفني هذا التحوير الدائم، كنيّة وحيدة بمتغيرات مضاعفة، لطالما أحببت في الفن الإسلامي وحدته المذهلة في تنوعه غير المتناهي: هذه المخطوطات التي تغطي الأقمشة أو الجدران أو الخزف المطلي أو قباب المساجد أو ألواح الأطفال أو صفائح البرونز والنحاس أو سجاد الصلاة، هذا الجنون في التفرد والحاجة في اعادة اكتشاف الحقيقة إلى ما لا نهاية، هذا الحبّ المجنون للفعل الإلهي؟ والكلام ـ الشفهي وغير الشفهي ـ خلق عالمًا من الحضارات بالموازاة مع الكون الكبير، هذه الروح التي يملكها العالم العربي الإسلامي البعض من الفنانين العرب المعاصرين أعطوها بعدًا جديدًا، إنهم يجعلون عالمنا اليوم مواكب للتاريخ، يثبتون بالممارسة أن فرضيات التميز العربي وتلك المتعلقة بحضارتنا صالحة وحية دائمًا.

الانفصال عن التقسيمات التعسفية للفن الغربي

هؤلاء الفنانون العرب الأوفياء لأنفسهم والحداثيون بقوة هم في الواقع نادرون جدًا، ذلك أن استعمال عنصر فني واحد قادم من هذه الثقافة لا يجعلك تنتمى إليها، بالإمكان استعمال الحرف العربي بدون استعادة الجذور، أو من دون حتى منح دلالة لسطح، إذ يجب استعمال كل الثراء الذي يتوفر وفهم جل معطيات ثقافة ما لا أحد عناصرها بعيدًا عن علاقته بالكل.

أُدرك أن الفنان ليس فيلسوفًا كما أنه غير مطالب بأن يكون كذلك، تُعبر فكرته عن ذاتها من خلال الرؤية أو بشكل متخفي في مادة أو تقنية، فما المواد والألوان والأشكال إلا كلام الرسام حين تأخذ أعمالك إلى حرفي عربي أمازيغي في الجزائر، من مزهريات وصحون من الخزف فأنت انفصلت عن الانقسامات ـ أو بإمكاني القول إنها غير عادلة - المتعسفة للفن الغربي، أنت تعلم أن جرة لخزفي جزائري أو مغربي – حرفيين متواضعين – هي دائمًا منحوتة متقنة، أنت لا تملك ذلك الصَّلف الذي يقتل حكم الجمهور.

تحافظ من خلال مهنتك كخطاط على نقاوة الخطوط والأشكال والوضوح في التضليل، وفي هذا التفصيل كما في الكل أنت تنتمي إلى حقيقة التجربة المعاشة من بلداننا ذات الشمس والظلال، تحفظ للشمس صرامتها وظلام غيابها.

وعدا الأسود والأبيض تحافظ أيضًا على اللون الأمغر، لون الطين والرمل والحناء وشعر الجمل والخنزير.

تحرير الأرض من الاستعمار لا يعني شيئًا إن لم يكن متبوعًا بتحرر أفكارنا والأشكال التي نصنعها

أيها الجزائري.. أنت حساس للعناصر الأساسية التي تحوطك: السجاد الذي يرمز إلى مكان الإقامة أكثر مما يرمز لها المنزل، ذلك أن أرواحنا ظلت لحسن الحظ بدوية، فسجادك ينقل على سطحه ارث الحروف العربية والرموز الأمازيغية وحلي النساء، إنّ التعاون بين الفنان والحرفي والذي كان متواجدًا في كل الحضارات باستثناء عصر الألة هو الأمل الجديد للفن المعاصر وكذلك الهندسة، ولقد فهمت أنت كل هذا منذ زمن طويل.

اقرأ/ي أيضًا: معرض فهد الحلبي.. البحث عن الخط العربي في المراسلات الإلكترونية

أشعر بالسعادة لأنك امتلكت الشجاعة وتوقفت عن استعمال القماش هادمًا بذلك التسلسل الهرمي الذي كان قد تشكل في الفن، فلماذا يكون الرسم أو الكتابة على خزفية أو على قدح أقل جمالًا؟ وأقل نبلًا من لو كان على الورق أو على القماش؟

أدركتَ كالقليل من الفنانين في العالم الثالث أن تحرير الأرض من الاستعمار لا يعني شيئًا إن لم يكن متبوعًا بتحرر أفكارنا والأشكال التي نصنعها.

لا أفصل الأخلاق السياسية عن التجميل، كل شيء مترابط، لقد أدركتَ دائمًا بحدسك هذه الحقيقة ووضعتها موضع التطبيق.

أنا متيقنة أنك شكل من أشكال الحنين، ماض كان يود البعض لو أنه مات فجعلته حيًا، فوضعك في مدرسته وسمعه وبتحقيقك لهذا فأنت جعلت المستقبل ممكنًا، هل الكيمياء حلم أو فن للعرب؟

إن الفن نوع من الكيمياء، إذ نحصل من المواد التي تبدو أكثر من عادية على قطعة فنية ساحرة، أنا واثقة أن أحجارك وخزفك وقماشك سوف تخلق عالمًا يدفع للتفكير والحلم، الفن المعاصر يسير على الدرب الذي سلكه الفن العربي الإسلامي، أعلم أن هذا أبعد من يكون واضحًا.

أرغب لو أقول أن المبادئ الاساسية لهذا الفن قريبة من أبحاثنا، هذه المبادئ التي ترتكز على الاقتصاد في المواد، التضليل الديناميكي، جدلية الكتابة – الرسم والرسم الذي ينظر له ككتابة، والقدرة على ملء الفضاء بخلق وهم الفراغ و تفتيت الواقع لبلوغ ما هو روحاني.. الروحانية التي لا تخشى الواقع.

هذه هي المبادئ التي شكلت إسهامات الفن العربي الإسلامي القديم في العالم، ومن خلال مسالك مختلفة كانت نفس مبادئ الفن المعاصر للذي يراه ويعرفه. ثمة أشياء لا تموت على الرغم من أنها تولد مجددًا بدون توقف.

إني أرى أعمالك من هذه الزاوية وانني سعيدة لأجلك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"أسوَد" يوسف عبدلكي.. الرسم لعبة شطرنج

رامبرانت.. يوميات المرح والاضطهاد