11-نوفمبر-2021

من المعرض

بلوحات قليلة، يريد ناصر عجمي أن يؤرخ لكائن بشري، كائنات بشرية، ما زالت تتنفس تحت الركام. ماذا يملك المخنوق تحت الركام من قول ليقوله؟ حتى الصراخ العاري يكاد يكون لا مجديًا. الأفضل أن تلتفت إلى ذكرياتك، وتفكر، لقد كنت فتى غرًا ذات يوم، أحببت وصادقت وحضنت وقبلت ولاطفت كثيرين وكثيرات. لقد كانت حياتي تستحق أن يحزن أحد ما لأجلها. هذا ليس وداع محتضر. هذا بيان ناج من انفجار.

بلوحات قليلة، يريد ناصر عجمي أن يؤرخ لكائن بشري، كائنات بشرية، ما زالت تتنفس تحت الركام

بلوحات قليلة، يريد ناصر عجمي أن يؤرخ لكائن بشري، كائنات بشرية، ما زالت تتنفس تحت الركام.في العادة، ينحو الفنانون إلى إعادة تمثيل حياة الموتى. أكان الميت رجلًا أو امرأة أو مدينة أو مرفأ. وفي بيروت يمكن القول إن مكانًا متسعًا وكبيرًا منها قد قضى نحبه في انفجار 4 آب/أغسطس الشهير. ولو كان ثمة أمل ما في بقاء هذا البلد أو عودته إلى التنفس، لوجب على الفنانين أن يعيدوا رسم ما تهدم، وإحياء ذكرى من مات. لكن لوحات عجمي تعلن العكس: نريد أن نقيم نصبًا لأطلالنا. أطلال حيواتنا وذكرياتنا وبيوتنا وكتبنا ولوحاتنا.

اقرأ/ي أيضًا: معرض قادر عطية في الدوحة: عن الصَّمت.. عن الصدمة أيضًا

قبل انفجار المرفأ، كانت الإهراءات لا تثير في المديني أي انفعال. هي مبان تؤدي وظيفتها على أحسن وجه أو أسوأه. لكن الانفجار الهائل جعل من أطلال الإهراءات هذه شيئًا حيًا. كائنا يتألم، ويعاني. انتصابه على النحو الذي بدا عليه بعد الانفجار يوحي بأن في وجهه ندوب وفي جسمه جروح لا تحصى. ثم إن هذا الكائن، الذي ولد من موت الأشياء وجمادها، صار، تقريبًا، وعلى نحو لا قبل لنا بتحمل تبعاته، مهددًا ومنددًا، كما لو أنه يصرخ بالعابرين، لا تتركوني وحيدًا لمصيري. والعابرون في بيروت اليوم، وبعد كل ما جرى من فجائع، هم عابرون حقًا، عابرون فيها ومنها إلى أي مكان. فقط ثمة رغبة ملحة جدًا في الابتعاد عن هذا الخراب.

ناصر عجمي قد يكون واحدًا من هؤلاء أيضًا، والأرجح أنه. لكنه وهو ينتقل من صفة المقيم إلى العابر، يريد توديع المكان، توزيع القبلات والأحضان على من يحب، مواساة من تشظٍّ وتألم، وهدهدة من يمنعه الألم من النوم. إهراءات المرفأ في هذه اللوحات تشبه واحدًا من هؤلاء الذين يقيم لهم المرء وزنًا في حياته وذكرياته. وحين يرسمها فإنه يلحق بها وجهًا، حلمًا، فكرة، غيومًا داكنة. كما لو أنه يقول إن احتضار هذا الكائن الصامت سبقه موت كل هؤلاء: أحلامهم، أماكن ذكرياتهم، أفكارهم، قناعاتهم. ما الذي يبقى للمرء حين يكون مقيمًا في وطن لم يعد يملك من مقومات الأوطان شيئًا؟

العابرون في بيروت اليوم، وبعد كل ما جرى من فجائع، هم عابرون حقًا، عابرون فيها ومنها إلى أي مكان

اللوحات قليلة، والحياة أيضا قليلة. بل ربما أقل منها بكثير. على الأقل ثمة في اللوحات ما ينبئ أن شخصًا أو جماعة تقيم وزنًا لماضي هذه البلاد، ليس ماضيًا مفتخرًا، لكنه كان في وقت ما طافحًا بالآمال والأمنيات. وهذه اللوحات أولًا وأساسًا تقيم وزنا لما يبقى. وما يبقى في حقيقته لم يعد أكثر من الجروح.

اقرأ/ي أيضًا: ريم سعد.. رحلة عين مستنيرة

ربما تكون المرة الأولى في تاريخ هذا البلد، وربما في كل التواريخ القريبة، التي يكون فيها كل شيء قابلًا للتحلل والموت والفناء إلا الجروح، تلك التي تبقى تنز دمًا من اللامكان.


ناصر عجمي فنان تشكيلي لبناني أقام عددًا من المعارض الفردية والمشتركة في لبنان وعدد من الدول الأوروبية والأفريقية.

يعرض الفنان عددًا من لوحاته في محترفه بالأشرفية تحت عنوان "لنبقى_ بيروت"، بالاشتراك مع الفنانين سمير عجمي ونادر دياب، من 11 تشرين الثاني/نوفمبر وحتى العشرين منه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في أعمال سمعان خوام التشكيلية ومنحوتاته

حوار| زياد توبة.. عن الأيدي المحبطة وأمزجة الخشب