10-يناير-2018

لاجئون في النمسا

لن نختلف، اللجوء جينة تنتقل من جيل إلى آخر في العائلة، كأي علامة فارقة على الجسد؛ عيون بنية، وحمة على الخاصرة وعلى الجبين سَنَةُ اللجوء، ونسبة استحقاقك لهذه الجينة، حال تواجدها في شجرة العائلة، أكبر من نسبة انتهائك بالروماتيزم، السكري، الصلع أو بسرطان الثدي حتى؛ الذي أسمع عنه عادة في الأفلام الأجنبية.

اللجوءـ في حال كُتب عليك ـ شيء مؤكد كاستحقاق الضرائب أو كالوقوع في الحب.

اللجوءـ في حال كُتب عليك ـ شيء مؤكد كاستحقاق الضرائب أو كالوقوع في الحب.

اقرأ/ي أيضًا: كاليه.. برزخ اللجوء

انظر لحالنا، نحن العائلة المثال، انتهى المطاف بالأخ الأكبر والأخ الأصغر أن يخسروا شعرهم، فقط لأن الأخوال يعانون من قلة الشعر، بينما ربح الأخ الأوسط جائزة أن يكون وريث الأب في كثرة الشعر وغزارته، ولكن في الوقت نفسه، انتهى الحال بنا نحن الأخوة كلنا أن نكون لاجئين، فقط لأن أمنا لاجئة فلسطينية، تعلمنا من رؤيتها ومعاشرتها أنّ اللجوء علامة تسمُ الظهر لأجيال وأجيال حتى بعد ستين سنة.

لا أعرف إن كانت اللغة العربية أو الألمانية أو اللغات الأخرى تحتمل هكذا صورة، ولكن، بشكل من الأشكال وبصورة من الصور، كانت النطفة التي استقرت في رحم أمي بذرة لجوء في كامب مبدئي، وإن كان ذلك الكامب على وجه الخصوص دافئًا وحنونًا على غير ما ستقضيه الحياة في لاحقات الكامبات.

لن نختلف، دعني أخبرك بأنها حقيقتي المطلقة لهذه المرحلة، والتي سأؤمن بها لقترة طويلة من قادمات الأيام ولكن ليس هذا هو المهم، المهم هو واجبي وحاجتي في جعلك تدرك الفرق بين الذين عاشروا اللاجئين والذين أصبحوا على حقيقة لجوئهم دون أي معاشرة سابقة تخفف المصاب، الموضوع مهم لك، إذا كنت لاجئًا فتتلمس كأعمى تفاصيل وجهك برؤوس أصابعك، أو إذا كنتَ، لربما، تعاشر اللاجئين ومعرض في أي لحظة لغزوة مخلب هذا الجين الخبيث، فاللجوء ليس مختلفًا كثيرًا عن تغير درجة الحرارة أو الكسوف، يُفضل التجهيز له وفهم بارومتراته وتبعاته.

إن كنت تعتقد للحظة بأن الغرب يخاف من الهاربين من الشرق لأنهم يأخذون مساعدات لجوء أو معونات اندماج ريثما ينغمسون في المجتمع، أو لأنهم يسببون أزمة سكن أو تضارب نفسي في التعايش أو التوافق في الثقافة، فأنت مخطئ جدًا، أعتقد بأنهم يخافون من تغلغل هذه الجينة في المجتمع أو نقلها رويدًا رويدًا وحينها لن يتمكن ألف اندماج أن يعدّل ما انكسر.

هل سنختلف إن قلتُ لك بأن الأسلمة، تبعًا لحقيقتي المرحلية، هي أن يتعود ذوو البسبورات الأصلية على الأكل بأيدهم وأن يكرهوا المشي وحمل الحقائب تحت الشمس بحثًا عن قهوة منزوية للاختباء عن الأعين.

الأسلمة هي أن يتعود الغرب على إعطاء أولوية الجلوس للنساء وينسون المساواة و"الفيمينيزم"، أو أن تتغلغل كلمة "إن شاء الله" إلى معجم قواميسهم فتضيع المواعيد الدقيقة وتتخلخل والدعوات واللقاءات.

الأسلمة ليست الخوف من الأسلمة إنما الخوف من تعريب العادات والتقاليد، لأن حرية الاعتقاد هي المحور الأساسي في أوروبا، أما حرية التعريب فهي خط أحمر لم تتخطاه أوروبا بعد.

دعنا لا نختلف، في سوريا لم يكن لأخوالي اللاجئين حق التملك فكانوا يسجلون كل شيء باسم زوجاتهم، هل يمكنك أن تتخيل موقف أولاد أخوالي وهم يعلمون أن أمهم تملك كل شيء، وأن والدهم الفلسطيني لا يحق له ببساطة أن يملك السيارة التي عمل من أجل تجميع ثمنها ليركبها!

كان أخي في بعض الأحيان يصيح بأعلى صوته عندما كنتُ أنام في غرفته أو أستخدم أشياءه الخاصة فينادي عليّ: "قم يا بن اللاجئة". لا بد وأن الموضوع كان مضحكًا ولكن إدراكه وفهمه كان مهمًا جدًا، هل تدرك مفاجأة الذين لم يمروا مرّة واحدة في حياتهم في مخيمات الفلسطينيين حتى لحظة دق نفير اللجوء!

لم أكن بحاجة لأن أتفاجأ، أو لأن أستغرب من حقيقة أن حقائبنا جاهزة، كأنّ أمي كانت تنظف البيت، وعندما انتهتْ أغلقنا الباب وسلمنا المفاتيح وذهبنا حيث لا رجعة.

الأسلمة هي أن يتعود الغرب على إعطاء أولوية الجلوس للنساء وينسون المساواة و"الفيمينيزم"

نحن مصابون بأحد أعراض الجينة بتمييز التغيير والتآلف معه حتى قبل حدوثه، أو دون الحاجة حتى لمتابعته عن كثب. في كل مرة أشتري شيئا ما من محل الأنتيكات القديمة يطرحني السؤال: "ما هي جينات صاحبه القديم". "هل نام ليلة في مخيم أو خيمة وتعربشتْ على روحه لعنةُ تآلفِ الترحال فاستفاق وضل يمشي حتى وصل قارعة الطريق فجاع ومنذ تعود اللعنة وتآلف معها باع أشياءه ومضى بعيدًا؟". "هل أخبرته أمه كيف كانت عيونه خضراء لحظة ولادته، ولكنها انقلبْت معتمة بعد أسبوع كخريطة مستقبله لأن جين اللجوء له الغلبة واليد العليا والمكانة الأكبر في الروح والجسد؟". "هل سألوه عن هويته فعدّ كل الهويات التي لا يمتلكها وكل الأشياء التي يكرها وعدّ النهايات التي يحاول تجنبها ولم يعرف من هو إلا كرقم متحرك في سجلات الهجرة واللجوء؟"

اقرأ/ي أيضًا: الطريق إلى الوطن (1).. حكايا سوريين ضاقت بهم بلاد اللجوء!

لربما كان ذلك سبب عدم رغبتي في بيع أغراضي القديمة لمحال الأنتيكات، فأنا أعرف بأن الأشياء تحمل قصص أصحابها وجينات أصحابها أيضًا، ومن السهل انتقال العدوى من معطف لاجئ عبَرَ به الحدود وتشرّبَ المطر والأذى وماء الترحال.

أعرفُ بأن الأمهات يحاولن الامتناع عن الكحول والتدخين والأكل المضر والزعل في حبلهن، ولكنهن لا يستطعن الامتناع عن توريث لجوءهن لأولادهن، حتى وإن قطعوا الحبل السري ودفنوه في الأرض الأم تحت عتبة البيت.

تمامًا قبل أن ينظفن البيت ويسلمن المفاتيح ويرحلن بعيدًا، يتلمسن خريطة معتمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"طلبكم مرفوض".. هل انتهى ربيع اللاجئين في أوروبا؟

ألمانيا ونظريات اللجوء السوري