07-سبتمبر-2017

تعيش النخب المصرية الحالية في قاع الماضي من أفكار وأشخاص (نيوزويك)

منذ فترة ليست بالبعيدة قال لي مثقف مرموق، يشغل منصبًا بالدولة، إنه حزين جدًا لأن العرب دخلوا مصر في القرن السابع الميلادي وهيمنوا عليها. مثقف آخر غاضب لأن الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، أعاقت صيرورة التطور الطبيعي للبلاد، ولولاها لكانت مصر الآن من الدول السبع الكبار التي يسبّح العالم بحمدها. 

معظم جماعات النخب المصرية من كافة التيارات تعيش في الماضي، وعادة ما تدعم آراءها بالقياس إلى الماضي

وكثير من الليبرالين المحلييين الجدد، يصبّون نقمتهم على العهد الناصري، لأنه ضرَبَ الديمقراطية في منطقة حسّاسة فأغمي عليها ووقعت على الأرض بعد أن ازدهرت وانتعشت ولعلعلت قبل 1952. أما ذلك الحاصل على شهادة دكتوراه، فقد صرّح وهو ينظر إلى صديقتي شذرًا، لأنها بلا حجاب وترتدي ملابس صيفية، أن مشكلتنا الراهنة تتلخّص في أننا لم نعد نقتدي بالسلف الصالح فعلًا ومسلكًا.

اقرأ/ي أيضًا: من الميدان إلى الخلاص الفردي.. كيف تغير المصريون؟

ويبدو أن معظم جماعات النخب المصرية بجميع تلاوينها، تعيش دومًا في الماضي، بل أفكار معظم أفرادها ماضوية، وآراؤها تُدعم عادة قياسًا إلى ما تمّ أو قيل مسبقًا بكلام من نوع "قال فلان" أو "ارتأى علان". طيب، إذا لم يقل فلان أو علان، ماذا نحن فاعلون؟

إن اجترار الماضي أو نبشه، علّه يمكن العثور على مشروع نهضوي ضائع هنا أو مختلف هناك؛ ربما يفسّر عجز النخبة عن إنتاج أفكار جديدة ترفد المجتمع بمشروع نهضة على ضوء احتياجاته ومواضعاته الراهنة، وربما يفسّر هذا الأمر أيضًا، غياب الحوار المُجدي المنتج، وغياب تصارع الأفكار، رغم مئات المقالات التي تنشر يوميًا في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية. 

وحتى الآن تبدو الأفكار "المهمة"، التي يمكن لها إحداث التأثير والتغيير في المجتمع قليلة ومحدودة ولا يتم التحاور بشأنها، بغض النظر عن الاحتمال الأرجح بضياعها وسط سيل من التدفق المعلوماتي والفكري يجعل من عملية فرز وتدقيق "المحتوى"، أمرًا يصعب على الفرد القيام به بمفرده.

كان الاستبداد السياسي سمة لمصر الحديثة، لكن ذلك لم يمنع في السابق من ظهور أفكار جذرية كرد فعل على هذا الاستبداد

وقد يعزو البعض غياب الأفكار النهضوية إلى السبب التقليدي: الاستبداد السياسي الراهن، لكن السؤال الذي يطرح نفسه أمام تلك الرؤية: أليس الاستبداد السياسي سمة من سمات الحكم في مصر طوال تاريخها الحديث؟ وأليست بعض الأفكار الجذرية في هذا التاريخ إنما جاءت لمواجهة الاستبداد السياسي، مثل فكرة فصل الدين عن الدولة التي نادى بها الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم" (1925)؟

اقرأ/ي أيضًا: الموقف العلماني.. عن الإنسان والسلطة

لقد تعقّد المجتمع المصري وتجدّدت مشكلاته، واختلفت خلال هذا الزمان إلى حد بات القياس معه غير مقبول، وكذا الاستنجاد بحلول ماضوية لحل هذه المشكلات، فالحلول الراديكالية لا توجد في السعي الكسول لتبنّي أفكار الماضي، لكنها تسلتزم استنباط مقاربات لأفكار جديدة ملائمة. ولقد شغلت النخبة السياسية اليسارية (باعتبارها الفصيل المدني العلماني الأكثر تنظيمًا) نفسها طويلًا وعلى مدى سنوات بسؤال يتعلّق بطبيعة ما حدث في 23 تموز/يوليو 1952، وهل هو ثورة أم انقلاب، كما ظلّت مشغولة بسؤال حول طبيعة السلطة في مصر، وهل هي رأسمالية كمبورادورية أم نوع من النمو غير الرأسمالي، واختصمت فرق اليسار حول أسئلة من هذا النوع!

وخلال ذلك، وقعت نكسة 1967، ومدّت الوهابية النفطية أقدامها الغليظة، فداست على كل أخضر ويابس من نتاج الاستنارة في مصر، وبات الجميع يأنف في أمر الحاضر ولا يتطلع إلى المستقبل. وفي صعود باراك أوباما قبل عقد من الزمان وما حدث في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، دروس مستفادة بالنسبة لنا.

المستقبل يعني مراجعة الماضي ونقده، وليس التشبث بأفكاره وقيمه التي لابد وأن الزمن قد تجاوزها

ما أتحفنا به المحللون والمعلقون بعد انتخاب أوباما كأول رئيس أمريكي أسود، عن قدرة المجتمع الأمريكي على مراجعة قيمه ومفاهيمه ومراجعة أخطائه، يبدو حاليًا في الزمن "الترامبي" أشبه بنكتة سخيفة. ربما تتشابك أسباب ذلك بوجودنا في فترة تاريخية غريبة ومريبة تشهد صعود خطابات الكراهية ومدًّا إرهابيًا لا يعرف سوى الانتقام، ولكن الواقع يفرض علينا يقظة واستمرارية ترتبط بها نظرتنا للماضي ككائن حيّ أو كرحم يحبل بما هو قادم، وليس كجثة جميلة يسعى الجميع للنوم إلى جوارها طوال اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: اقتحام الجماهير للسياسة.. أفكار عن الإسلام والسلطة

المستقبل هو مراجعة الماضي والنظر إليه بغضب أحيانًا، وليس التشبث بأفكاره وقيمه ومفاهيمه التي لا بد أن يكون الزمان قد تجاوزها وجبّها على نحو من الأنحاء، والخروج من برزخ التخلف والفقر وعالم القرون الوسطى المغلّف بأغلفة حداثية واهية لا تخفيه، يستدعي التساؤل بجد عن مشروع نهضة جديد يقرأ تاريخنا باعتباره اتصالات وليس انفصالات، ويستقرئ الحاضر ويسعى للإجابة عن سؤال يتوجّب أن يكون محورًا لكل كلام أو كتابة حول الشأن المصري العام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"عبسلام".. زمن الثقافة المصرية

عزمي بشارة مشخصًا حال الخيار الديمقراطي العربي