17-أكتوبر-2017

بورتريه نجيب محفوظ

لعل التركيز على "أزمات الرجولة" النفسية والجسدية والسياسية في ثلاثية نجيب محفوظ أمر لا تمكن الإحاطة التامة به في مقال واحد، غير أن العرض السريع لها، كان من باب نظرة سريعة عابرة على شخصيتين برزت فيهما بوضوح أهم تجليات تلك الأزمة، وهما البطل الأهم سيد عبد الجواد، الأب الفحل ذو العينان الزرقاوان والجسد الأبيض الضخم، الاجتماعي المحب للضحك والمزاح والمغامرات الماجنة في الخمر والجنس مع أصدقائه، وشخصيته المناقضة لكل ذلك في منزل الزوجية في "بين القصرين"، حيث يكون الأب الصارم، الزاجر، المحافظ المتدين.

من أبرز ما تقدمه ثلاثية نجيب محفوظ هو كشف أزمات الرجل الشرقي

الشخصية الثانية هي كمال عبد الجواد، الابن الأصغر، الأقرب نفسيًا وعقليًا لنجيب محفوظ، المثالي الفيلسوف الباحث عن الذات، المنطوي الخجول صاحب الرأس والأنف الضخمين، والتطلعات المثالية التي ألهت الحبيبة، ومن ثم نزوعه إلى الوحدة في محراب الفلسفة، والزاهد عن الارتباط بجملته الشهيرة "الزواج حبة وأنتم تصنعون منه قبة".

اقرأ/ي أيضًا: أسرار وأزمات جديدة حول نجيب محفوظ في ذكرى ميلاده

سيد عبد الجواد.. أزمات الجسد والحزن والتناقض

في "بين القصرين"، يصف نجيب محفوظ ما درج عليه سيد عبد الجواد من تعاطي أمور البهجة والعبث مع الأصدقاء، تلك السهرات التي لم يكن أثرها ينقطع بعودته إلى منزله، حيث تحتل السهرة في نفسه أثرًا لطيفًا: "وكأنه لا يزال يرى مجلس الأنس تزينه النخبة المختارة من أصدقائه وأصفيائه، ويتوسطه بدر من البدور التي تطلع في سماء حياته حينًا بعد حين، وما برحت تطن في أذنيه الدعابات واللطائف والنكات (...) وكان يحب الغناء بروحه وجسمه، أما روحه فتطرب وتغمرها الأريحية (...) ولهذا احتفظت نفسه لبعض المقاطع الغنائية بذكريات روحية وجسدية لا تُنسى مثل "وليه بقى تلاويعك وهجرك"، أو "ياما بكرة نعرف وبعده نشوف"، أو "اسمع بقى وتعالى أما أقولك". وكان حسبه أن تهفو إليه نغمة من هذه النغمات معانقة حواشيها من الذكريات حتى يتهيج مواطن السكر من نفسه، فيهز رأسه طربًا وتفر على شفتيه ابتسامة أشواق ويفرقع بأصابعه".

وضع نجيب محفوظ هنا في تصويره لحالة سيد عبد الجواد ذلك التناقض الواضح بين الرجل صاحب المزاج العالي والمغامرات الماجنة في بيوت المومسات، وبين الرجل المحتفظ الصارم الذي يحكم بيته بقبضة من حديد، جعلته لا يغفر شُرب القهوة للبنات، ولا التطلع إلى العالم إلا من خلال ثقوب المشربيات الضيقة.

كانت الفحولة وشرب الخمر رمزًا لرجولة سيد عبد الجواد، وقدرته على مجاراة الزمان، ورمزًا لوجوده الحقيقي في العالم، فهذا التعاطي مع العالم من خلال تلك الحظات العابثة، بعيدًا عن البيت والشارع المكتظ بالجنود المحتلين وضجيج الدكان.. هو ما خلق ذلك المزيج غير المجانس لشخصية سيد عبد الجواد.

حتى في "قصر الشوق"، بعد خمس سنوات من رحيل الابن الأوسط فهمي صريعًا في إحدى المظاهرات ضد الإنجليز، نجد سطورًا ترصد الجسد عند عبد الجواد كأزمة من أزمات رجولته التي بدت تخبو: "ثم نهض ليخلع الجبة والقفطان بمعاونة أمينة، هناك بدا جسمه كالعهد به طولًا وعرضًا وامتلاء .. لولا شعريات اغتصبها المشيب من فوديه، وعندما أدخل رأسه في طاقة الجلباب غلبه الابتسام فجأة إذ ذكر كيف تقيأ على السيد عبد الرحيم، وكيف اعتذر عن ضعفه ببرد أصاب معدته، وكيف تعمدوا أن يعيروه به زاعمين أنه لم يعد يتحمل الشراب".

أزمة كمال عبد الجواد في "الثلاثية" تشبه أزمة الجبرتي أمام الحملة الفرنسية

خمس سنوات هي الفارقة بين "بين القصرين" و"قصر الشوق"، منها سنة كاملة من الحزن على فهمي هي التي زحف فيها الشيب إلى شعره، وقلبه. خمس سنوات كانت فيها رجولته حبيسة الحزن والفرح الوقور. الزمن أيضًا كان له بالمرصاد فهو في الخامسة والخمسين في قصر الشوق، يداعبه أحد أصدقائه راجيًا إياه أن يعود إلى حبيبات زمان. أزمة الرجولة الصاخبة تتراجع أمام الحزن الذي بلل وجهه وأصحابه في القرافة وهم يوارون فهمي الثرى. لطالما كان الثبات أمام الحزن طابعًا من طوابع الرجولة، وامتحانًا لها، لكن سيد عبد الجواد بقي رجلًا، صاحب الهيبة وإن خفتت في بيته، وصاحب هشاشة بريئة بين أصحابه.

التناقض في كل المراحل لم يترك سيد عبد الجواد علامة أثيرة على طابع الرجل الشرقي الحائر دومًا بين ما يريد وما يجب أن يفعل.

أما في رواية "السكرية"، فقد داهمته أزمات الشيخوخة، أزمة كبيرة على الرجل الصاحب صاحب المغامرات التي لا تنتهي، جعله الطبيب يأكل بحساب وينام بحساب، وطالبه بقائمة هائلة من الممنوعات، وبأقصر منها من المسموحات، وبين كل أوراقه تبرز أزمة ابنته عائشة التي فقدت ابنين وزوجًا في الوباء، فكبرت عشرين عامًا على عمرها، وشعوره بالقهر لدى رؤيتها بجانبه تخبو، ورؤية ابنة عائشة تتربى في بيت جدتها دون أبيها الراحل.

كمال عبد الجواد: بين الحبيبة الإلهة وعزلة الراهب

يقول نجيب محفوظ في كتاب إبراهيم عبد العزيز "أنا نجيب محفوظ" الذي يحكي فيه نجيب سيرته الذاتية في عدة مقابلات: "أنا كمال عبد الجواد في الثلاثية ـ أظنه يحمل ما يزيد عن 50% من واقعي، ولكن بشكل مروي، ولكن مع ملاحظة أن التركيز الروائي تم على أزمته العقلية".

يحكي نجيب محفوظ في حكايته عن كمال عن الجيل الذي تربى تربية تقليدية محافظة، ثم انغمر في تيارات الحداثة المعاصرة، ويشبه أزمة هذا الجيل بأزمة الجبرتي حين وجد نفسه أمام الحملة الفرنسية.

ثم تحدث نجيب محفوظ عمن خرجوا في البعثات الخارجية ثم عادوا بتلك الأزمات، مثل يحيى حقي وتوفيق الحكيم، ولكنه يقول عن نفسه إنه عاشها هنا، أي في مصر، وإنه في سبيل بيان ذلك كان لا بد من أن يخلق كمال على الورق مستغرقًا في تلك الأزمة. يقول: "أزمته الفكرية مصاحبة لأزمته كفرد في أسرة، وكشفه لحقيقة أبيه، ولواقعه كإنسان، وما هي الأسرة؟ جزء من الكيان العام؟ الجزء يحيا حياة الكل.. وأزمة الوطن تحملها الأسرة الواحدة فيه".

أزمات وجودية كُبرى خاضها كمال وسطرها نجيب محفوظ مطولًا في كلماته، أزمات عن تحويل الحبيبة عايدة  بنت سراي آل شداد إلى إلهة للحب، تترفع عن كل دنيوي. استغرق كمال في تأليه حبيبته بحب يوتوبي غامر، اصطدم أخيرًا بواقع زواجها من غيره، كان ذلك طريقًا لاكتشاف أزمته هو في اكتشاف عالم اللذة الجسدية في مشهد عبقري رسمه نجيب لكمال عبد الجواد في لقائه الأول مع المومس الأولى في حياته: "نزعت ثوبها بحركة بهلوانية ووثبت إلى الفراش ففرقع تحت ثقلها، ثم استلقت على ظهرها وربتت على بطنها بأناملها المخضبة بالحناء (...) انهدم في لحظة ما أقامه الخيال في أيام".

نجيب محفوظ: أنا كمال عبد الجواد في الثلاثية ـ أظنه يحمل ما يزيد عن 50% من واقعي

بعد كل أزمة كان كمال يعود إلى عالمه أكثر، ويلتصق بذاته أكثر، مهذبًا مثاليته ببعض النضج الناجم عن الخبرة، ومندفعا أكثر إلى عالم مكتبته الصغيرة في غرفته، حيث يرى العالم من خلال الفلاسفة. حتى وظيفته كمعلم، التي تحدى من أجلها والده وتحمل في سبيلها تقريعه وسخريته؛ بات يعدها جانب الفلسفة ضربًا من ضروب الخروج الضروري من العالم، من أجل العودة إلى صومعته الأثيرة.

وفي هذا السياق يشير محفوظ إلى الواقع السياسي الذي خلق التعارض بين الصورة في واقع نفسه وواقع الأمور أمامه، وما خلق هذا كله من الاغتراب في نفسه الذي يقول عنه: "هذه هي الأزمة التي طحنت كما يقولون شباب هذه الفترة ومن بينهم كمال، إنه قريب مني جدًا، لكن هذا لا يجعله أنا ولا يجعلني هو، وفي الواقع أن الفترة التي بدأ فيها كمال يدخل منطقة الوعي هي تلك الفترة التي انتكست فيها ثورة 1919".

انتهى نجيب محفوظ على أي حال من كتابة الثلاثية قبل قيام ثورة ضباط تموز/يوليو بثلاثة أشهر. وعادت الحياة لتتبدل تبدلات أعمق وأضحت أزمات الرجولة فيها أعنف وأكثر تناقضًا وحيرة، حتى تجلى سنامها في ثرثرة فوق النيل، الثرثرة التي كانت تملأ الناس جنسًا ومخدراتٍ وغيابًا كاملًا للوعي عن الكارثة الكبرى حينها.