31-أغسطس-2016

(Getty) نجيب محفوظ

رغم القرون التي تفصل بين "ملحمة الحرافيش" و"دون كيخوته دي لا مانشا" التي كتبها ميجل دي ثربانتس، إلا أن الروايتين فازتا بخلودٍ قلما يختاره الحظ لكاتبه. يقول النقاد إن ثربانتس المحارب الجريح كتب عن "مقاتل طواحين الهواء" ليسخر من عصر الفرسان المزيفين المهزومين، وليُعلي من القيمة الإنسانية للإنسان بكل تناقضاته مهزومًا وضعيفًا، منتصرًا وقويًا. ولعل هذا ما جعل من الكتابة عملًا مقدسًا أنانيًا لدى نجيب محفوظ، فاختار أن يكتب قصة العالم من خلال قصة حارته وبيئته، وبطريقة أهم قصص التاريخ؛ "ألف ليلة وليلة". 

اختار نجيب محفوظ أن يكتب قصة العالم من خلال قصة حارته وبيئته

يقول جلال الدين الرومي: "هذا الشيء الذي لا يُعثر عليه هو أملي،/ قالوا: ما تبتغيه يبدو محالًا./ قلت: إن المحال من مأمولي". 

اقرأ/ أيضًا: فكرة توفيق الحكيم وأسلوب نجيب محفوظ

تبدأ "ملحمة الحرافيش" بدفقة النور الأولى وسحب الظلام صامدة أمام دفقة الضياء المتوثبة. المواجهة الأولى ساعة تنفس الصُبح، أصل المعركة الثابت منذ بدء الخليقة بين أبواب مغلقة وأخرى تُفتح. ثم "خبر المدينة السعيد بتقبل شهريار لشهرزاد زوجةً له. لا شيء يُسعد الشيخ عبد الله البلخي المقيم في مقام الرضا. لا السرور يستخفه ولا الحزن يلمسه. وفي الحديث الدائر بينه وبين تلميذ، يحكي أصل الحكاية "إن المنافقين يركبون سنام الأمور ويبقون على المزاود وإنهم "شر البقر". 

يدخل نجيب عالم السلطة العفن من أوسع أبوابه وهو يحكي قصة جمصة البلطي، المتورط حتى أذنيه في فساد محيطه، حتى نسي وصايا شيخه البلخي وعهده له في أيام البراءة الأولى. ويُخرج جمصة العفريت المسحور المحبوس من قمقمه متخيلًا أنه نال أداة لنعيمه، تحقق له ما يشتهي وما يخطر على باله، لكن الحقيقة أنّ العفريت لعنه لعنات أبدية. يذهب جمصة إلى شيخه فيحكي له حكايته العجيبة، فيزيده شيخه من التيه، إذ أنّ هذه معركته.

يزيد جمصة من ابتلائه؛ قتله للحاكم خليل الهمذاني الذي يضاهيه فسادًا واستبدادًا، ويحاكم شهريارُ جمصةَ فيثيره كبرياؤه، فيحاكم بقطع رأسه وتعليقها ليكون عبرة. يغفو جمصة في السجن، ثم يصحو على جلبة الجنود الذين جاؤوا لينفذوا فيه العقوبة الرادعة، يحدث كل شيء أمامه وكأنه ليس بطل الحدث بل المتفرج، يرى بأمّ عينيه جسده معلقًا ورأسه منثورًا، وحين يخلو الميدان تمامًا من الناس يسمع العفريت يقول له "لقد قتلوا صورة من صنع يدي، لكنك حي، هيهات أن يعرفك أحد لأني منحتك صورة جديدة".

وتستمر قصته في مفارقة عبثية يصل فيها عبد الله الحمال إلى أن يكون رئيس شرطة مرة أخرى، فينسى نفسه مرة أخرى، ويتورط في أمر هنا وهناك. أليست هذه قصة الإنسان؟ تكاد المصيبة تشطره نصفين، فيبكي طالبًا الرحمة من سلطته العليا التي يقدسها، وحين يُمنح الفرص لا يكون دومًا مساويًا لمقام الفرصة الممنوحة له. 

يحيى الرخاوي: يمكن أن نتنبه إلى أن محفوظ لم يفصل تحديدًا بين تاريخنا وتاريخ البشرية 

اقرأ/ أيضًا: "الأحلام الجديدة".. نجيب محفوظ يثور

في العودة إلى شهريار؛ أصل الصورة البشرية بكل كبريائها ونسيانها وظنها أنها تقدر أن تحمل مسؤولية الوجود وحدها. يتخفى شهريار ويمشي في الطرقات ليلًا بين الرعية، بحثًا عن أصل الحياة، تغلبه الحيرة وشهوة المعرفة. أما شهوة المعرفة فكانت في مشهد هو ذروة سنام الحكاية، وذلك حين مر شهريار في الخلاء على قوم يبكون وينتحبون حول صخرة، ضربها بيده فانفتحت له برائحة زكية ونساء جميلات كأنهن الحور، وعالم من طرب وهناء لا يشوبه شيء سوى التحذير من غرفة هي سرّ التعاسة الأبدية. تنعّم شهريار في نعيم مقيم وفردوس عظيم حتى مل، ففتح الباب المحرم فعاد إلى عالم التيه والزوال مرة أخرى، ووجد نفسه أمام البكائين المنتحبين فجلس يبكي معهم وينتحب. يقول سمنون المحب: إن كان يرجو سواك قلبي/ فلا نلت سؤلي ولا التمني.

وعن الكتابة عن العالم، أو عن التاريخ الذي هو قصة العالم، كتب الدكتور يحيى الرخاوي يقول: "يمكن أن نتنبه إلى أن محفوظ لم يفصل تحديدًا بين تاريخنا (تاريخه) وتاريخ البشرية (بل تاريخ الحياة أحيانًا) إلا نادرًا. لعله اعتبر – و هو على حق- أن كل فرد على هذه الأرض أو تلك في زمن محدد، ليس إلا تجسيدًا لمسيرة الحياة برمتها، حيث يستحيل فصل الوجود الفردي عن ملحمة الوجود الحيوي (التطور)". 

لعل كل هذا كان سببًا في جعل الحكاية عن نجيب محفوظ تبدو وكأنها طاحونته الأثيرة التي يطحن فيها ما هو فلسفي، وما هو سياسي وإنساني وميتافيزيقي في طاحونة واحدة، ليخرج في النهاية عالمًا له نكهة خاصة، يخرج من بين دفتي كتابه ليأخذك من يدك فتدخل عالمه راضيًا ذاهلًا عن كل ما يشغلك آنيًا، تاركا ذاتك للحكاية واللغة والعمق المدرك دون افتعال، ولسهله العبقري الممتنع. 

اقرأ/ أيضًا:

أفراح القبة.. الدراما المصرية تعود إلى الواجهة

إشكاليَّة الشَّاعر.. التأويل والعوالم المُتخيَّلة