07-فبراير-2018

جانب من حفلة لراشد الماجد (Getty)

في السنوات القليلة الماضية أضحى سوق الخليج العربي جاذبًا لعدد من الأسماء الموسيقية البارزة والناشطة ضمن ما يمكن تسميته "تيار موسيقى البوب العربية"، حتى صار من المرجح أن يستيقظ المصريون ليجدوا مغنيًا مثل عمرو دياب يطلق أغنية باللهجة الخليجية. كلمة السر الغالبة وراء ذلك الاتجاه صوب المشرق العربي هي شركة "روتانا" للإنتاج والتوزيع الموسيقي المملوكة لرجل الأعمال السعودي الوليد بن طلال، وسيطرتها على الحصة الأكبر من سوق الغناء العربي ونقلها مركز الثقل الموسيقى العربي من القاهرة وبيروت إلى مكان يحرّم الموسيقى على أساس ديني، السعودية.

تعاني الأغنية الخليجية من عدة أزمات تحول دون تطويرها أو تغيير شكلها وطريقة تنفيذها

وسواء صحّت المعلومات حول اشتمال ألبوم عمرو دياب القادم على أغنية خليجية أم كانت مجرد محاولة مجهضة أخرى من "الهضبة"، فالأكيد أن كل من اتجه لإطلاق أغانٍ باللهجة الخليجية كانت تنتظره اتهامات بمسايرة الموضة أو البحث عن "سبّوبة" من أجل حفظ مكانه في مهرجانات وحفلات الخليج الزاخرة بالأموال، أكثر منه اهتمامًا بتقديم شيء جديد في مسيرته يضيف إليه أو يساهم في تطوير الأغنية الخليجية. فرغم التجارب العديدة لـ "نجوم" الغناء العربي في غزو الأرض الخليجية، ومع استمرار نجوم الخليج أنفسهم في الغناء والإنتاج بكثافة، نظرًا لتوفر الشروط المادية والإمكانات التسويقية؛ فإن الموسيقى الخليجية لم تتطوّر خطوة واحدة إلى الأمام. ولم يحاول أي من المطربين تفسير استمرار شكلها التقليدي أو الإجابة عن سؤالين أساسيين: ما الأغنية الخليجية؟ ومَن جمهورها؟

اقرأ/ي أيضًا: "الكينج منير" مطرود من رحمة "النوبة" مجددًا

تعاني الأغنية الخليجية من عدة أزمات تحول دون تطويرها أو تغيير شكلها وطريقة تنفيذها، أولها وأبرزها هو عدم وجود موسيقيين في الخليج. نعم هناك مطربون متحققون وأصوات واعدة وهناك شركات إنتاج كبرى لا تتعرض لأزمات مالية أو أجواء تنافسية صعبة، ولكن كل ذلك يدور في فلك "الإيقاع الخليجي"، وهو مصطلح غامض تختفي وراءه بعض من أهم عناصر صناعة الموسيقى الأساسية من ملحنين وموزعين يفكرون خارج حدود الصندوق والقوالب الجاهزة. فليس هناك إيقاع موسيقي ثابت لمنطقة جغرافية ما أو من اختراعها، والأولى أن يُقال "غناء باللهجة الخليجية"، وليس بإيقاع يفضِّله العرب هناك ومرتبط برقصاتهم التي تضبط الإيقاع من خلال الضرب على الأرض بأقدامهم أو بالتصفيق، وهي عادة قديمة للتسلية والترفيه عند العرب انتهت إلى ظهور إيقاعات محدودة ومتشابهة لم تتغيّر إلى الآن.

الأكثر غرابة أن الألحان في الأغاني الخليجية لا تتغير أيضًا، فيستطيع المستمع تمييز موسيقى وألحان أي أغنية خليجية من بدايتها عن أية أغنية باللهجة اللبنانية أو المغربية وغيرها. وهذا ليس انتقاصًا أو تقليلًا من الخصوصية الثقافية أو ما شابه لتلك الموسيقى، ولكن بالأحرى تأشير على ثبات جامد وطبيعة رافضة للتغيير في مجال فني إبداعي تزداد قيمة وأهمية منتجاته بقدر ما تتضمنه من إدراك متجدد لطبيعة الوسيط الفني وأدواته، وجرأة إبداعية خلّاقة تسهم في رفد الموروث الموسيقي بمكونات خارجية متمازجة تعلي من تأثيره وتوسّع دائرة جمهوره.

كذلك فإن هناك آلات وأنماطًا موسيقية ما زالت محرمة في الأغنية الخليجية، كالموسيقى الإلكترونية بأنواعها، بالإضافة إلى الألوان الأخرى كالجاز واللاتيني والروك. فقط إيقاع واحد وآلات محددة تنحصر في العود والدفوف والآلات الوترية، وتجارب فقيرة تستخدم الأورج والأكورديون، ولكن دون تجديد أو فائدة إذا كانت الألحان والإيقاعات لا تجد من يغيّرها. وقد يكون هذا مبررًا بسبب اهتمام العرب الأوائل، وأحفادهم في الخليج، بالشعر في المقام الأول واعتبار الكلمة محركًا رئيسيًا للأغنية ومعيارًا لقوتها، ولكن الأمر غير مبرر بالنسبة للمطربين خارج منطقة الخليج والذين يمتلكون تجارب موسيقية ناجحة وجريئة نسبيًا في أعمالهم الأخرى.

مشاركة حسين الجسمي في عمل من أعمال الدعاية السياسية ضد قطر أقل ما يوصف به هو الفجاجة والسطحية الساذجة الخالية من أي عامل جذب

ثمة سبب آخر مهم لتكرار وتقليدية الأغنية الخليجية يتمثل في عدم وجود جيل جديد من الشباب في السوق الخليجي، فالتجارب التي استطاعت النجاح خارج هذه الدائرة كانت على يد شباب تأثروا بالموسيقى الشعبية المصرية، وليس أدل على ذلك من نموذج حسين الجسمي، الذي رسّخ اسمه كمطرب خليجي يستطيع تقديم أكثر من لون موسيقي، بالإضافة لكونه ملحنًا جريئًا، فهو صاحب لحن واحدة من أشهر وأنجح الأغاني الخليجية الراقصة، "مشكلني حبك" لراشد الماجد. مثال الجسمي نموذجي في إبراز الجرأة على التجريب وعبور الحواجز الثقافية، إذا ما دخلت إلى المعادلة "تجربته المصرية" وقمتها المتوّجة المتمثلة بأغنية "بشرة خير"، التي رغم مجيئها في ظرف سياسي استثنائي وارتباطها بشكل مباشر بالدعاية السياسية الصريحة إلا أنها نجحت نجاحًا استثنائيًا، وهو أمر جدير بالملاحظة والتحليل في ضوء مشاركة حسين الجسمي نفسه في عمل آخر من أعمال الدعاية السياسية ضد قطر أقل ما يوصف به هو الفجاجة والسطحية الساذجة الخالية من أي عامل جذب.

اقرأ/ي أيضًا: تعرّف كيف وصلت موسيقى "الكناوة" إلى المغرب

مشكلة عدم وجود جمهور خليجي هو من عوامل غياب معنى الموسيقى الخليجية، فالجمهور الخليجي الشاب لا يعتبر جمهورًا نشطًا وفعالًا مقارنة بجمهور بلاد أخرى كالمغرب العربي ولبنان، ومعظم الحفلات الجماهيرية في الخليج موجهة إلى الجاليات العربية. ولكن ما يفعله المطربون هو الغناء لفئات بعينها في الخليج، وهي الأسماء والشخصيات التي تنظم حفلات الفنادق والأفراح والجلسات الطربية من أجلهم فقط. لذلك تظل محاولات التجديد في إيقاع وألحان الأغنية باللهجة الخليجية بعيدة تمامًا عن إنجاز المأمول، بخروج الجمهور "العادي" و"الطبيعي" والشاب من المعادلة، وبتكرار اللفّ في نفس دائرة "الإيقاع الخليجي".

اقرأ/ي أيضًا:

خبز دولة.. موسيقى بهيئة رغيف

الحياة بوصفها "طنجرة ضغط"