15-يونيو-2021

مقطع من لوحة لـ نوال السعدون/ العراق

"لا سماء ليخفق فيها جناحاك"

  • سعدي يوسف 

 

السّماءُ صافية والشمسُ ساطعة، والحرارة مرتفعة ككل صيف تعرفهُ الأراضي العربيّة، ومع هذا يقول محلل الأرصاد الجوية بأنها قد تمطر الليلة. أتعجبُ وأنا أنظر من نافذتي في يوم عطلتي الوحيد: لا شيء يشير للمطر، لا رائحة، لا غيمة، لا حركة، تنبئ بهطول المطر، لا شيء.. 

في الخارجِ، الأشياء تجهلُ ما سيحدث، ويأتي/ يقع فيصير: عمود ضوء الشارع، صديقي الدائم، الذي علّمني دروس الوحدة، يقف دائما هنا، في مكانه هذا، يمر الجميع دون الالتفات إليه، أو حتى إلقاء السلام عليه، ومع هذا يقف ولا يعرف أن ابن الجيران الطفل الصغير، الذي يخرج كل يوم من منزله راكضًا في الشارع، تكاد تدهسه سيارة مسرعة، سينجو من الحادث، بصدمةٍ تُخفيه عن العيون، ويبقى في منزله، حتى تعتاد قدميه على المشي. يفكّر العمود: ألهذا الطفل أجنحة؟ يطير كل يوم، ولا يمشي.  

السيارة الحائمة كل مساء، دونما هدف، لا تعرف المنازل أنها للشاب الذي خسر صديقته الوحيدة، الساكنة في المنزل رقم خمسة، بعد أن قال لها في رسالة أرسلها عبر الهاتف: أنا خائف من الحبّ، وداعًا عزيزتي، الحب يفسدنا. وتركها وحيدة، تبكيه كل ليلة، حتى تشاغل قلبها بحكايات قررت أن تختلقها، وتُقحم روحها فيها؛ فما عادت تذكره، ولم تعد تقف عند هبوط أول خيط للمساء عند نافذتها لتراقب سيارته، فتعرف أنه ما زال هنا، حيثما كان دائمًا.. تفكّر المنازل بصوت مرتفع: من سنوات يحوم في نفس المكان، كيف لا يعثر الباحث عن ضالته؟ 

تجمّعت السحب، من لا مكان أتت، هبطت رطوبة على المكان، وقد يصدق محلل الأرصاد الجوية فتمطر الليلة.

كالموت، لا شيء ينبئ أنه هنا، حولنا، حوالينا، فينا، مندسٌ في شق أو متوار خلف جدار، لكنه آت، وكائن حاضر حتمًا.

 

قبل أعوام "إنني أحسست بالموت قريبًا

وقد كان كعينيّ قريبًا 

إنني ألمحه اليوم كما كنت أراه  

شيّقًا كالحلم تدعوني خطاه 

مثلما تدعو حبيبًا".

 

قبيل انتصاف النهار، بعد قراءة خبر رحيل الشاعر سعدي يوسف: الشيوعيّ الثائر، الناجي الأخير من الضياع، الحالم دائمًا. الشّاعر الذي خشيتُ الاعتراف بحبّه. كم عدد الشعراء الذين كبرتِ معهم وأحببتِهم يا أنا، دون إظهار وتصريح علنيّ؟ لنبدأ بالعد: أمجد ناصر، فوزي كريم، سركون بولص، سعدي يوسف، و.. مهلًا، الأخير تنظرين في خبر رحيله، وتقولين: هل كان يجبُ أن يموت في الغيابِ؟ لماذا يصرّون على تكرار الميتة؟ لماذا لا يأتون بميتة جديدة، تدفع الضحك المتكوّر في معدتي لأعلى حلقي، ليخرج عاليًا في ضحكات، عوض حضور كآبة الموت، ببرودتها، ورائحتها التي تشبه رائحة الدم الفاسد، أو رائحة قن دجاج؟ 

أف كم أكره رائحة قن الدجاج؛ يذكرني بمنزلنا في صورته القديمة الأولى: الدجاج فرد من أفراد عائلتنا، يأكل خبز الفطور معنا، يشرب ماءنا، ويشاركنا الغداء: الأرز الغارق في مرقة السمك.  لكل دجاجة في منزلنا اسم خاص، ولكل واحد منّا دجاجته. كانت لي دجاجة تشبهني، قررت ألا تبيض. كنت أدخل لبيت الدجاج، أبحث عن البيض، لآخذه لأمي، قبل أن تبرك عليه الدجاجة الأم، فنضيّع على أنفسنا بيضة مقلية للفطور، تتشاركها عشرة أفواه، كل فاه يفكّر كيف يلتهم عددا أكبر من اللقمات.

تحممتُ كثيرًا، وفركتُ جلدي لأبعد عنه رائحة قن الدجاج؛ ولكن الرائحة بقيت في مكان ما في جلدي.. مرة أشمها تحت أظافري، فأركض لأفرك يدي كالمهووس؛ هل عاقبتني الدجاجات لسرقتي صغارهن؟  

لم تعد البيضة الواحدة تكفينا، ولم أعد أدخل بيت الدجاج، واختفت أربعة دجاجات، بعد أن اقتحم الحصينيّ بيتنا، وسرقهن. ذُبحت كل الدجاجات في الليلة التالية، وطبخت كحساءٍ للعشاء، تشاركناه ليلتها، وبقينا حزانى على الدجاجات، سنعود نذكرهن لاحقًا، في جلسات أحاديث تجمعنا.

اليوم، لا بيت للدجاج في منزلنا، فلماذا تنتشر رائحة الدجاج في الغرفة، وأشمها في جلدي؟ 

 

"لا تقل في خفوتٍ وداعًا"

إلى سعدي يوسف:  

ومضى الشّارع والبيت عنك 

ومضيت..

 

هامش:

القصائد المقتبسة لسعدي يوسف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أوف أيها الغد!

إلى امرأة نعرفها جميعًا