09-أبريل-2023
الاسير والكاتب وليد دقة

الكاتب الأسير وليد دقة

في كلّ مرة أستمع إلى أغنية سميح شقير "ولو يرموك" أتوقّف كثيرًا عند المقطع الذي يقول فيه "وجوا السجن ما في زمن تعدّو وتقطعو وترجع"، يخطر على بالي فورًا الأسير الفلسطيني وليد دقة، وأفكر في مفهومه حول "الزمن الموازي"، أفكّر في الحقيقة التي تحدّث عنها شقير في مقطعه، من أنّ أزمنة السجن هي أزمنة لامرئية أو لاملاحظة، لا تُعدّ ولا تُقطَع، وليس فيها من التجديد ما يستحقّ ممن عايشها أن يستعيدها ويسترجعها.

أتأمّل في دقة الذي ابتدع مفهومه حول "الزمن الموازي" في رسالة كتبها بعد بلوغه عامه العشرين في السجون الإسرائيلية، وأفكّر في مضامين المفهوم وكيفَ استطاع دقة المرة تلو الأخرى من تجاوزه ومن العيش في زمن آخر هو "الزمن الاجتماعي" المتحرّك، خارج أطر السجن وقضبانه.

"الزمن الموازي" عند وليد دقة وصف عميق لبلادة الحياة وركودها داخل السجن، مقابل "الزمن الاجتماعي" الذي يصف سير الحياة وحيويتها خارج قضبانه

يأخذني تفكيري في المفهوم إلى دراسة كتبها عبد الرحيم الشيخ بعنوان "الزمن الموازي في فكر وليد دقة"، وهي دراسة وضّح فيها بأنّ هذا المفهوم احتلّ مكانًا رفيعًا في فكر دقة، فهو مصطلح فلسفي ابتدعه دقة ليصف بلادة الحياة وركودها داخل السجن، مقابل "الزمن الاجتماعي" الذي يصف سير الحياة وحيويتها خارج قضبانه، حيثُ يصل الشيخ في نتائج الدراسة إلى أنّ دقة تمكّن من تجاوز قيود الأسر في "الزمن الموازي" الراكد، واستطاع أن يقفز عليها ليعيش في "الزمن الاجتماعي" المتحرّك، بفعالية الكتابة الدائمة المستمرّة حول فلسطين وقضاياها.

أرجعُ إلى متن الرسالة التي ابتدع فيها دقة مفهومه حول "الزمن الموازي"، وأورد فيها: "إنّ الإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة، جوهر الإنسان العقلي هو الإرادة، وجوهره الجسدي هو العمل، وجوهره الروحي هو الإحساس، والإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة البشرية... وهذا الجوهر بالذات هو المستهدف في حياة السجين على مدار الساعات والأيام والسنين، المستهدف هو أي علاقة خارج الذات، أي علاقة يمكن أن تقيمها مع البشر والطبيعة... المستهدف هو الحب وذوقك الجمالي والإنساني".

أفكّر بالكتابة عند دقة كلحظة متعالية، استطاع عبرها ومن خلالها، أن يخلقَ إحساسًا مكثفًا بكل ما هو خارج ذاته، لتكون كتاباته التمثيل الأبرز على الإحساس بالناس وبآلام شعبه، بما هو الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، ويخصّها بمفاهيم الحبّ والعطف والانتماء.

فكتاب دقة "صهر الوعي: أو في إعادة تعريف التعذيب"، يأتي كمثال بارز على إحساسه المكثّف بقضايا الأسرى الفلسطينيين الذي ينتمي إليهم، ورغبته في فضح الاستراتيجيات الإسرائيلية في تذويب وصهر وعيهم وإعادة تشكيله بما يخدم المصالح الإسرائيلية.

أما روايتيْه لليافعين "حكاية سرّ الزيت" و"حكاية سرّ السيف"، فتأتيان كمثاليْن بارزين على إحساسه المكثّف بأهمية التنشئة العقلية لجيل الأطفال والشباب الصغار في فلسطين، ووجوب ترسيخ مفاهيم حبّ الوطن والانتماء إليه لديهم، عبر هذا النوع من الكتابة الرمزية التي تستخدم الأسطورة والرمز، وتوجّه خطابها إليهم وهي على يقين من يقظة مداركهم وقدرتهم على التقاط الإشارات وفكّ الترميزات.

إنّ دقة أصرّ على العيش في لحظة الكتابة المتعالية مرارًا وتكرارًا، وتعرض جرائها للعديد من السياسيات التنكيلية، حيثُ قامت إدارة سجون الاحتلال بمصادرة كتاباته وكتبه، وعزله في زنزانة انفرادية، ونقله بشكل تعسّفي، واليوم يواجه دقة مخاطر الموت المحدق به جراء سياسات الإهمال الطبي (القتل البطيء) التي تُمارسها إدارة السجون بحقّه بعد تأكّد إصابته بمرض سرطان الدم (اللوكيميا)، يواجه دقة هذا الخطر متمسّكًا بلحظة الكتابة المتعالية، بصفتها اللحظة الأقدر على هزيمة سكونية الأزمنة الموازية والإفلات من قبضتها إلى فضاء الأزمنة الاجتماعية، التي ليست سوى أزمنة ناسه وشعبه وأهله.