21-أكتوبر-2022
مظاهرة في غزة تُرفع فيها صورة الشهيد عدي التميمي

مظاهرة في غزة تُرفع فيها صورة الشهيد عدي التميمي

أوردت مجلة الدراسات الفلسطينية في عددها (132) ملف خاصّ حول رسالة الماجستير التي ألفّها الأسير زكريا الزبيدي تحت عنوان: "الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية، 1968-2018 ".

الزبيدي كان من ضمن الأسرى الستة الذين فروا من سجن جلبوع الإسرائيلي العام الماضي، وتمّ مناقشة رسالته في جامعة بيرزيت في تاريخ 2 تموز/يوليو من العام الحالي، وقد حمل الملف الوارد في المجلة عنوان: "تحية الصياد والتنين"، وجاءت المواد فيه لتستعرض بعض مضامين الرسالة ومجريات النقاش.

ظَهرَ النابلسي في إحدى اندفاعاته تلكَ، وكأنّه يحثّ الخطى باتجاه صياده، يُطارِده، يتقدّم نحوه ويُطلق النار، وكأنّه يريدُ الاقتراب منه أكثر وأكثر، ليثبتَ له في التقاء العينيين بأنّ هذه اللحظة هي لحظة التنين الفلسطيني

جاءت مادة من مواد الملف تحت عنوان: "المطاردة في التجربة الفلسطينية، 1968-2018، خلاصة الرسالة"، وتطرّقت إلى عنوان الرسالة، وذكرت بأنّ سبب اختيار الزبيدي للعنوان هو أنّ الأطفال الفلسطينيين بمن فيهم الباحث نفسه، نشؤوا في طفولتهم على صورة أيقونية للقديس جريس (ويعرف بالخضر)، يظهر فيها فارسًا على ظهر حصانه، وهو يسدّد رمحه لفمّ التنين لكيْ يُنقذ العروس الجميلة.

فهذه الصورة الأيقونية المستمدة من المخيلة الدينية الإنجيلية في التراث الفلسطيني، تأتي محملّة برمزية معينة، تؤكّد فيها على انتصار الإيمان الخيّر المتمثّل بالخضر على الوثنية الشريرة الممثّلة بالتنين، وهي صورة سادت في السياق الفلسطيني، وصارت من باب التحبّب مجاز عن الفلسطيني الذي يُصارع الاستعمار الصهيوني.

أوردت المادة، بأنّ الزبيدي وفي بدايات بحثه في موضوع الرسالة، اطَّلع على العديد من أدبيات المقاومة وأخلاق الحرب، وناقش مع مشرفه عبارتين وردتا على لساني فيلسوفين هما: الفيلسوف الفرنسي سارتر، وجاءت عبارته تقول: "الصياد حين يُلاحِق التنين يصيرُ هو التنين"، والفيلسوف الألماني نيتشه، وجاءت عبارته تقول: "إنّ ملاحقة التنين لا يجب أن تجعل أرواحنا تتوحّش كالتنين".

الزبيدي وفي إطار نقاشه مع مشرفه حول العبارتين السابقتين، لاحظ بأنّهما تأتيان من أجل تعزيز فكرة الشرّ المتأصّل في التنين والخير المتأصّل في الصياد، لكّنه قرّر في ضوء خوضه هو وغيره لتجربة المطاردة، وعلى إثر رصده لتفاخر بعض مؤسسي وحدات المستعربين باللحظة التي تتواجه فيها أعينهم بعينِ المطارَد، حول كونها تُمثّل لحظة الصياد الذي تتواجه عينه بعين الفريسة؛ قرّر في ضوء ذلك كلّه الانحياز في رسالته للتنين، وتحويل صورته الشرانية إلى صورة خيرة، واعتباره صاحب المكان والأقرب للطبيعة، والأكثر تماهيًا مع صورة الفلسطيني صاحب الأرض الأصيلة والمتجذِّر فيها، الذي يُمكن عدّه الخصم الوحيد الذي لا يقبل أن يكون فريسة سهلة للصياد الطارئ على الأرض والمتطفّل الذي يعيش على دمّ قتل الآخرين، والذي يندفع دائمًا لمطاردة صياده وملاحقته والاشتباك معه دون خوف، ومن هنا جاء عنوان رسالة زبيدي كتعبير عن مجاز معكوس للتنين الفلسطيني صاحب الأرض (المطارِد)، والصياد الصهيوني المتطفّل عليها (المطارَد).

والراصد لكلّ حالات المقاومة التي انبثقت في الفترة الأخيرة في الضفة الغربية، وكان أبطالها أفرادًا وجماعات، يُلاحَظ أنّها تأتي كتأكيد حتمي على هذا المجاز المعكوس الذي بناه الزبيدي في رسالته، فهم جميعهم تحوّلوا من مطارَدين إلى مطارِدين، وكأنّ تلك التنانين المختبئة في نفوسهم منذ الأزل قد ظهرت وتبّدت للعيان، في شكلِ ملاحقة مستمرّة وتعطّش دائم لملاحقة صيادهم (الاحتلال) والاشتباك معه وجهًا لوجه، ومن نقطة الصفر.

لم يكن إبراهيم النابلسي أوّلهم، وأظهَر أكثر من فيديو بثّ له، كيفَ أنّ اندفاعاته لمواجهة الاحتلال كلّما دخل نابلس وبلدتها القديمة، هي اندفاعات واثقة، تواقة للقاء العدو الصياد، والاشتباك معه، ظَهرَ النابلسي في إحدى اندفاعاته تلكَ، وكأنّه يحثّ الخطى باتجاه صياده، يُطارِده، يتقدّم نحوه ويُطلق النار، وكأنّه يريدُ الاقتراب منه أكثر وأكثر، ليثبتَ له في التقاء العينيين بأنّ هذه اللحظة هي لحظة التنين الفلسطيني الذي يُقابل فيها صياده كما لو كان فريسته الوحيدة.

بعد أن فشلت محاولات تعقّب عدي التميمي، عاد إليهم مجددًا، ظهرَ لهم في قلبِ الليل، في مدخل مستوطنة "معاليه أدوميم"، تنينًا مطارِدًا، لا يخشاهم، بمسدس فيه بضع رصاصات، واشتبكَ معهم حتى ارتقى شهيدًا

ولن يكون عديْ التميمي آخرهم، هذا المطارِد/ التنين الذي نفّذ عمليته الأولى على حاجز شعفاط (في تاريخ 8 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي)، فأصاب من صياديه ما أصاب وقتلَ من قتل (أصاب جنديين من جنود الاحتلال وقتَل مجندة)، ثمّ وبعد أن فشلت محاولات صياديه التي استمرّت لمدة 11 يومًا في تعقّب أثره والعثور عليه، عاد إليهم مجددًا، ظهرَ لهم في قلبِ الليل، في مدخل مستوطنة "معاليه أدوميم"، تنينًا مطارِدًا، لا يخشاهم، بمسدس فيه بضع رصاصات، واشتبكَ معهم حتى ارتقى شهيدًا.

وهذا الإدراك لطبيعة المُطارِد/التنين الفلسطيني بات يظهر مؤخرًا في بيانات وأفعال مجموعة المقاومين المطارِدين في "عرين الأسود" في نابلس، أولئك الذين يتوجهون لصيادهم/ الاحتلال الإسرائيلي في بياناتهم برسائل يُعبّرون له فيها عن توقهم للحظة الاشتباك معه، ومطاردته ومقابلته وجهًا لوجه، يقولون له فيها: "سنرى اليوم من يُحاصِر من"، وتأتي أفعالهم في الاشتباك مع جنوده ومستوطنيه كدليل قاطع على شجاعة قلّ نظيرها، إنّهم في أفعالهم تلكَ تنانين حقيقيين يُلاقون صيادهم في لحظة الاشتباك، ولسان حالهم يقول: "سنرى اليوم من يُطارِد مَن".

ولا أجمل من وصف غسان كنفاني لأولئك المطارِدين/ التنانين الفلسطينيين، والذي أورده في مجموعته القصصية "عن الرجال والبنادق"، وكتب عنهم فيه يقول: "الرجال الذينَ يزحفون تحتَ صدر العتمة ليبنوا لنا شرفًا نظيفًا غير ملطّخ بالوحل".