15-أغسطس-2022
الشهيد إبراهيم النابلسي

الشهيد إبراهيم النابلسي

تبدو وصية الشهيد باسل الأعرج، بالنسبة لنا نحن الفلسطينيون، كما لو أنها أم الوصايا. فهي الوصية ذات الصفة الأمومية التي على بناتها أن تحمل جيناتها. وهي التي أسست للنسق، ووضعت النموذج، وأقامت البناء الدليل، لدرجة أننا كلما قرأنا أو استمعنا إلى وصية شهيد، بحثنا فيها عن ملامح وصية باسل التي يقول فيها: "ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة". ويضيف: "وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟".

جاءت وصية إبراهيم، ككل وصايا الشهداء، قصيرة ومختزلة وفاقدة للبلاغة. لكنها، وككل وصايا الشهداء، تحمل في طياتها بلاغتها وفصاحتها الخاصة

تحمل وصية الشهيد إبراهيم النابلسي التي سجّلها وبثّها قبل استشهاده في نابلس، ملامح وصية الشهيد باسل الأعرج. وصية مختصرة وسريعة ومختزلة وفاقدة للبلاغة سجّل فيها إبراهيم، قبل استشهاده، بضع كلمات عبّر من خلالها عن نيته الذهاب لنيل الشهادة، وعن حبّه لأمه. كما أوصى عبرها أبناء شعبه بعدم ترك سلاح المقاومة. قال إبراهيم: "أنا استشهدت يا شباب، أنا بحب أمي، وحافظوا علوطن من بعدي، وبوصيكم وصية، بحياة عرضكم ما حدا يترك البارودة، بشرف عرضكم، أنا هيني هلأ محاصر ورايح أستشهد".

لم تتجاوز مدة الوصية المسجّلة تسع عشرة ثانية هي المدة التي أتيح لإبراهيم المحاصر أن يتكلم فيها، وكنا نسمع بين كلماته أنفاسه اللاهثة. نعم، تسع عشرة ثانية هي مدة الكلمات التي خرجت من فمه كأنها ثمرته المعرفية الناضجة، أو خلاصاته الحياتية كلها التي أراد أن يلقيها على مسامعها.. ليتنا ندركها ونعقلها ونتأملها فنفهم ما فيها.

جاءت وصية إبراهيم، ككل وصايا الشهداء، قصيرة ومختزلة وفاقدة للبلاغة. لكنها، وككل وصايا الشهداء أيضًا، تحمل في طياتها بلاغتها وفصاحتها الخاصة. والبلاغة في وصاياهم لا تحتاج إلى أن نستقرئها، لأنها تصل إلينا جاهزة من خلال الفعل، تمامًا كما لو أن الأخير يأتي لينفي البنية الظاهرية الركيكة للقول، ويجعله أمامنا – وهو حقًا كذلك – قولًا كامل الأركان، مكتمل البلاغة.

حملت عبارة إبراهيم "أنا استشهدت" يقينًا من الموت الذي يقترب، وجاءت في الفعل الماضي ليقول من خلالها بأن استشهاده هو الفعل العابر للأزمان، الذي يعرفه ويوقنه قبل أن يُقدم عليه، ويعرف أنه يُقدم عليه وسيقدم عليه.

تحمل هذه العبارة، وعبارة "احنا استشهدنا" التي أقرها إسلام صبوح الذي استشهد برفقة إبراهيم، بلاغة من نوع خاص. إنها بلاغة الذي يُقدم على فعل الشهادة لأنه يرى في الموت خلاصه من العيش في ظلال كل مشاريع عقلنة الهزيمة – التي تقع أوسلو في مقدمتها – في زمن الاحتلال. تلك المشاريع التي لا تدعو الفلسطيني لقبول الحياة الذليلة المهزومة التي يعيشها تحت الاحتلال فقط، بل إنها تأتي لتعقلن كافة أنواع الاضطهاد التي يتعرض له بصورة يومية دائمة، وتسوُّقها له على أنه الواقع المفروض والسائد المستمر الذي لا مفر منه.

وفي شهادتهما، وإصرارهما عليها، أكد إبراهيم ورفيقه أن إقبالهما على الموت المادي الحقيقي، هو رد الفعل الطبيعي الوحيد على رفضهما العيش الذليل المعلقن تحت الاحتلال. ذلك العيش الذي يحمل في طياته ألف شكل من أشكال الموت المعنوي، أو الوجودي، كل يوم وكل ساعة وكل لحظة.

يؤسس إبراهيم في وصيته لعلاقة استثنائية بين المقاومة، على اختلاف أساليبها، والشرف الفلسطيني

أخيرًا، بوسعنا القول إن جزءًا من البلاغة التي حملتها وصية إبراهيم تجلت في تأكيده على أفراد شعبه بضرورة عدم ترك "البارودة". فعبارته "بحياة عرضكم ما حدا يترك البارودة، بشرف عرضكم"، جاءت لتستنهض في الفلسطينيين حسهم الوطني، وتدعوهم إلى اتخاد المقاومة بأساليبها كافة (اختزلتها لفظة البارودة) بوصفها السبيل الوحيد لدحر الاحتلال.

وكم يشبه إبراهيم في بلاغته هذه تلك البلاغة التي أسسها غسان كنفاني في قصته "المدفع" عندما أقام علاقة استثنائية بين المقاتل وسلاحه، فكان الفلسطيني هو السلاح (الفلسطيني – المدفع). ذلك أن سعيد الحمضوني في قصة غسان سدد ثمن سلاحه من دمه (ثمن التبرع فيه)، فصار سلاحه جزءًا لا يتجزأ منه، صار دمه. وإبراهيم النابلسي في وصيته يؤسس لعلاقة استثنائية بين المقاومة، على اختلاف أساليبها، والشرف الفلسطيني. يقول لنا: لا تتركوا مقاومتكم للاحتلال، فنهجها هو السبيل الوحيد الذي تحفظون به شرفكم وعرضكم (بلادكم). وبها وحدها تكونون ندًّا.