11-أغسطس-2016

هل ثمة صراصير غيري سجّلوا أصواتهم في هذا الفضاء الرحب كي يسمعهم العالم، وخاصة إخوانهم الصراصير؟

الآن، أنا محشور في هذه الفجوة من الجدار، "مصيري في تقدير الريح" كما قالها ذات مرة شاعرنا العظيم. لقد أخذت المكان الأكثر أمانًا في البيت، والقط الأسود يتربص بي خارج الفجوة حيث أختبئ.

إني هنا ولا أحد سيسمع نداء استغاثتي، حتى لو سمعني أبناء قومي، ما الذي بإمكانهم فعله في مواجهة هذا القط؟ ناهيك عن الحقيقة التي لا تعرفها الكائنات عنّا، نحن معشر الصراصير، هو أننا الكائنات الأكثر فردية بين أقراننا من الكائنات الحية.

انظروا حولكم! هل رأيتم ذات مرة خمسة صراصير تتجول سوية؟ لن أقول جيوشًا من الصراصير، فلا أحد يملك الجرأة والصفاقة ليقيم شبهًا بيننا وبين النمل، هؤلاء الامتثاليون والأكثر تفضيلًا بين جميع الكائنات.

بكل الأحوال، إن وضعي الآن قد يثبت الفرضية التي ذكرتها قبل قليل، إننا فرديون ونواجه مصائرنا بفردية مطلقة. لا أحد سمع عن صرصور ساعد صرصورًا آخر. إن كانت لديكم أي واقعة تشير إلى تعاون الصراصير فيما بينهم في أي زمان أو مكان، فأرجو إعلامي بذلك. طيب، لا أعلم إن كان بالإمكان إطلاعي بالأمر فأنا "مصيري"، كما ذكرت سابقًا، "في تقدير الريح".

ستقولون ما دام أنني أواجه مصيرًا كذاك، فلماذا وكيف صار أني أقول ما أقوله الآن؟ إنني أحكي قصتي الآن للفضاء حولي، وإني أعلم جيدًا أن هذا الفضاء سيحفظ كلماتي الأخيرة في مكان ما من هذا المحيط المُشبع بالصوت، ولاحقًا، ستكتشف الكائنات الأخرى مكان صوتي وستسمع حكايتي وكلماتي الأخيرة.

عندما أقول "لاحقًا" فإني أقصد مئات السنين. لا يهم إن كانت مئات السنين بحسب تقويم الأسماك أو القطط أو أزهار عباد الشمس أو البشر أو النمل أو الصراصير، فمهما اختلفت التقاويم والتقديرات فإن عبارة "مئات السنين" تبقى معقولة ومنطقية، فهي عبارة فضفاضة وغير منتهية الاحتمالات.

الآن ربما تتساءلون أيها المستمعون، أيًّا كنتم، عن السبب الذي يدفعني إلى تسجيل كلامي هنا؟ قد يتبادر إلى أذهانكم أن السبب الرئيس هو حالة الملل التي أعاني منها الآن وأنا محشور في هذه الفجوة الصغيرة في الحائط وعالق بسبب تربّص القط الأسود بي. طيب، الأمر ليس كذلك. أجل، أنا عالق هنا وأشعر بملل شديد، ولا أعلم بصراحة كم من الوقت مضى عليّ في هذا الوضع، تقديري للوقت لن يكون مفيدًا؛ إذ إنه إضافة إلى إمكانية كونكم، أيها المستمعون، من الكائنات الأخرى غير الصراصير فقد تُربككم تقديراتي للوقت، فتقديري للزمن مختلف عن تقديراتكم، ولأذهب أبعد من ذلك وأثبت فرضيتي السابقة، التي أسعى في هذا البيان إلى انتقادها والتمرّد عليها، فإن تقدير الزمن يختلف من صرصور إلى آخر، ففرديتنا شديدة جدًا، وحتى الوقت لم يسلم من هذه الخصلة التي فينا.

المهم، لقد مضى زمن طويل وأنا عالق هنا. في البداية، شعرت بالقلق والخوف. لأول مرة أواجه الموت بهذه المباشرة، سواء الموت بين فكّي القط الأسود أو الموت جوعًا. لكن مع مرور الوقت، بدأت أشعر ببعض الاسترخاء. قلقي في البداية ثم استرخائي لاحقًا وأفكار الموت التي أخذت تحاصرني وأوشكت أن تذهب بعقلي، دفعتني إلى التفكير والتساؤل: ما الذي أريده في هذه اللحظة؟ أنا ميّت، على الأغلب، فما الذي أريده غير حقيقة أني أريد النجاة؟ ماذا لو أني لن أنجو؟ ما الذي أريده؟

اكتشفت أني أريد أن يكون معي صرصور آخر. صرصور آخر؟ تصوروا! لا، لا أظن أن بإمكانكم أن تتصوروا الغرابة في هذه المسألة، فهي تحتوي على عنصر شخصي، إذ إنه إضافة إلى نزعة الفردية المتأصلة في ذاتي كصرصور، فأنا ربما يمكن اعتباري الصرصور الأكثر فردية بين إخواني الصراصير. في حياتي لم أسعَ أو أطلب أو أبتغي معاشرة صرصور آخر أو حتى الالتقاء به مصادفة. أنا اعتدت أن أرفض هذه الفكرة بتاتًا. لم أكن أستوعب ما الذي يمكن أن يقوله صرصوران لبعضهما بعضًا؟ ما الذي يمكن أن يفعله صرصوران معًا لتزجية الوقت؟ فالصراصير غير قادرة على التواصل، بل إن الأمر يتعدى ذلك، فلو أنكم عدتم إلى التاريخ، تاريخنا نحن الصراصير، الذي لا يتعدى أن يكون شفهيًا مثل تاريخ معظم الكائنات الحية، تجدون أن أي قصيدة أُلقيت أو حكاية رُويت، قد كانت بصيغة المفرد، ولا أحد من مبدعينا الكبار ذكر شيئًا عن معشر الصراصير بصيغة الجمع. وأظن أن الصراصير ستُصدم حين تسمع باستخدامي كلمة "التاريخ". تاريخ؟ أي تاريخ؟ تاريخ الصراصير؟ إن مجرد استخدام هذه العبارة، "تاريخ الصراصير"، يتضمن إقرارًا بوجود جماعة من الكائنات يجمعها شيء آخر غير العنصر البيولوجي.

أجل، أنا أستخدم هذه العبارة، وأستعمل صيغة الجمع لأني أعني ذلك. إن رغبتي في أن يكون صرصور آخر إلى جانبي في هذه اللحظة العصيبة من حياتي أدّت بي إلى التفكير بأن ما يربطني بإخواني الصراصير، الذين دائمًا ما تجنبتهم في حياتي، هو أكثر من الرابطة البيولوجية. لذلك، أريد أن أدشن بصوتي، هنا، بداية الطريق نحو وعينا الجمعي، نحن، معشر الصراصير. قد لا ينضم الآن صوت صرصور آخر إلى صوتي، أنا لا أتوقع أن يحدث ذلك في أي وقت قريب، فقيم الفردية مغروسة بعمق في أذهاننا، ولا أظن أننا قادرون على تجاوزها، وخاصة أن ظروفنا الاجتماعية والمعيشية لم تتغير منذ الأزل. في حالة واحدة فقط قد ينتشر الوعي الجمعي بيننا، نحن الصراصير، وهي في حالة تعرّضنا إلى إبادة جماعية ووصولنا إلى حافة الانقراض، فأنا، مثلاً، لم أتوصل إلى هذه الأفكار إلا عندما واجهت الموت بصورة مباشرة.

لأكن أكثر دقة وأشدّ وضوحًا وأقول إن أعداءنا شديدو الذكاء. لاحظوا أني استخدمت كلمة "أعداء"، وهذه هي المرة الأولى التي يُصرّح فيها بين الصراصير بوجود عدو جمعي، عدو مشترك ضدّ معشر الصراصير.

أجل، يوجد عدو مشترك، عدو يسعى دائمًا إلى قتل أي صرصور يصادفه وإلى زرع روح التفرقة بين الإخوان الصراصير. أقول إنه عدو ذكي لأنه لم يعمل أو يسعَ في يوم من الأيام إلى قتل الصراصير بصورة جمعية. قد كان يقتل الصراصير صرصورًا صرصورًا، وفي أوقات وأماكن مختلفة. كان يؤكّد، ونحن نصدّق بكل سذاجة، أن كل حالة قتل هي حالة فردية لا علاقة لها بالأخرى. وإذا نظرنا إلى الوقائع المباشرة فإننا نجده محقًا، وظاهريًا لا شيء يكذّب ادّعاءه. ولأنه لم يرتكب مجازر بحقّ أعداد كبيرة من الصراصير فإنه لم يصادف مقاومة جمعية من قبل الصراصير. لقد كبرنا ونحن نؤمن بأن مصائرنا منفردة ومنفصلة عن بعضنا بعضًا، وأن كل صرصور يواجه الموت وحيدًا ولوحده.

لكن دعونا نتفحص الأمور بدقة أكبر، كم عدد الصراصير التي ماتت ميتة طبيعية، وخاصة في التاريخ الحديث؟ هل يمكن مقارنة نسبة الصراصير التي ماتت بصورة طبيعية مع التي ماتت عن طريق القتل العمد؟ ثم حتى لو تقبلنا فكرة القتل كأمر عادي وجاري في الطبيعة، ألا يتساءل أحد لماذا تُقتل هذه الصراصير؟ ما الجريمة التي ارتكبتها الصراصير كي تستحق مصيرًا كهذا؟ فلنراجع التاريخ! معظم الصراصير، إن لم يكن جميعها، قد قُتلت من دون أي ذنب اقترفته؛ لقد قُتلت إما كي تُؤكل من قبل كائنات أخرى مثل المصير الذي أواجهه الآن أو لأن كائنات أخرى، وأنا أقصد البشر هنا، تجد الصراصير مخلوقات مقرفة.

تصوّروا! إننا نُقتل لأن الآخر يرانا مقرفين. قد أتقبّل وأخضع إلى قوانين صراع القوى، القوي يأكل الضعيف، هي قوانين غير عادلة بكل تأكيد ومع ذلك فمن الممكن تقبّلها أو على الأقل المناقشة حول شرعيتها، ولكن أن نُقتل لمجرد القتل؟ أن نُقتل لأن الآخر يشعر نحونا بالقرف؟ أن نُقتل لأننا مُقرفون بالنسبة إلى الآخر؟ فهذا ما لا يمكن استيعابه أو التسامح معه.

أعلم أني لا أستطيع فعل شيء الآن، أني لن أستطيع المقاومة، وأني لن أتمكّن من التبشير بأفكاري هذه أو نشرها، لكن هذه محاولة يائسة مني كي أسجّل بضع كلمات في الفضاء المحيط بي ليستفيد منها لاحقًا إخواني الصراصير، ليستفيد منها اللاحقون من الصراصير. أرجو أن تكون كلماتي هذه الشرارة التي تدفع إخواني إلى العمل على رفع الوعي الجمعي لدى عامة الصراصير، ومحاولة صياغة أفكار وأدوات تقودنا إلى التحرّر واتخاذ الموقع الذي نستحقه بين أقراننا من الكائنات الأخرى.

نحن لسنا ضعفاء كي نؤكل، ولسنا مقرفين كي تُسلب حيواتنا منا. نحن مخلوقات عريقة، لنا تاريخنا، الذي يحتاج بالطبع إلى جمع وتسجيل، ولنا أدبنا، الذي ينبغي حفظه كي لا نفقد ثقتنا بأنفسنا ونستمر في الاعتزاز بجنسنا.

أظن أني قلت كل ما أريد قوله، ولم يتبق لي إلا أن أذكر قصة ذكرها لي ذات مرة صرصور آخر، وإني أعترف صاغرًا هنا بأني أُجبرت حينها على الاستماع إليه، فقد صدف أن كنا متجاورين ونحن نصعد سلالم أحد الأبنية. هذا الصرصور شعر برغبة في فتح حديث معي، وهذا شعور أصيل كما أدركه الآن وعلينا جميعًا أن نبحث عنه في دواخلنا لأنه يعبر عن روحنا التوّاقة إلى الإخوة، ولأنه سيقودنا إلى الشعور بالرابطة الروحية التي تجمع بيننا. تحدّث معي ذلك الصرصور ولكني لم أكن أستجيب إلى كلامه ولم أكن راغبًا في تبادل الحديث معه، إلا أني كنت مُجبرًا على الاستماع إليه لأنه لم يكن في المكان سوانا. لقد أخبرني أنه يريد أن يصبح راوي حكايات، وروى لي الحكاية الأولى التي أبدعها، وأنا سأذكرها هنا لأنها خرجت من فم مبدع من مبدعينا الذين لم يسعفهم العالم الجائر حولنا على تحقيق حلمه، ولأني أشعر بتشابه تفاصيلها مع مصيري الآن ومصير معظم الصراصير على مرّ التاريخ، وكمساهمة مني في البدء بحفظ تراثنا وإبداعنا خوفًا عليه من الاندثار:

"دخل الصرصور المنزل البشري من تحت الباب، وتريّث قليلًا يرقب حوله، وحين اطمأن إلى هدوء الحال بدأ يمشي متوغلًا في غرفة الجلوس الرحبة، سعيدًا بإنجازه في ارتقاء طوابق البناية الأربعة ودخوله إلى مكان جديد وانفتاح احتمالات جديدة له، ولكن بينما هو يدبّ واثق الخطوة شعر بظلٍّ كبير يخيم عليه، وعلى الفور حاول إيجاد المسلك المناسب للخروج من الأزمة. إلا أن الأوان كان قد فات. فالقط الأصفر صاحب الظلّ ضربه بقوة بقائمته اليمنى، وطار الصرصور مبتعدًا حتى استقر على ظهره في إحدى أركان الغرفة ولحق به القط وضربه مرة ثانية، وراح يتناوب في تعنيفه بقائمتيه الأماميتين، ثم مدّ فمه والتقط الصرصور بأنيابه وحاول أكله إلا أنّ قساوة قشرة الضحية الخارجية دفعته لأن يؤجل الأمر ويقذفه من فيه ليجرب ويلتقطه ثانية...

لكن بدت الحشرة عصيّة عليه فضربها مرارًا وحاول أكلها وتقطيعها تكرارًا، وفقد الصرصور وعيه بعد محاولات عبثية في المقاومة وأخيرًا مات بتبعثر أجزاء جسمه. وبعد وقوع الواقعة وحين وجد القط أن لا فائدة تُرجى من فريسته ترك أطرافها وأعضاءها مبعثرة في أرضية الغرفة وركن إلى زاويته المفضلة وبرك كعادته وأغمض عينيه ونام.

وبعد قليل خرجت جيوش النمل من مخابئها واتجهت في خطوط طويلة متعددة، منفصلة ومنظمة، لتلتقط أجزاء الصرصور المتناثرة، وعادت هادئة مطمئنة إلى مكمنها تحمل أعضاء القتيل لتخبئها مؤونة للشتاء القادم. وحين رجع أصحاب المنزل من البشر لم يلحظوا تغييرًا في غرفة الجلوس، فالأمر مرّ وكأنه لم يكن".

بعد أن روى لي حكايته الحزينة هذه، تابعت طريقي مفارقًا إياه في أحد الطوابق. لا أنفي أني أُعجبت بالقصة في ذلك الوقت، ولكن عجرفتي وأنانيتي وفرديتي التي زرعها الآخر في نفسي ونفوس أسلافي، جعلتني لا أبالي بحكايته، ولا أبالي بمصيره اللاحق؛ ففي أثناء عودتي من رحلتي الموفقة سالمًا وغانمًا، وبينما أنا أنزل السلالم، وجدت جثته قريبًا من المكان الذي تركته فيه. لقد كان ميتًا ومسحوقًا. لقد سحقته أحد الأقدام البشرية ومحت كل تفاصيله وشوّهت جميع أعضائه. بالكاد استطعت التعرّف عليه، وما شعرت فيه في ذلك الوقت هو بعض القلق من أن ألقى المصير ذاته إن بقيت هنا لمدة أطول، لذا تركته ونجوت بنفسي.

نجوت؟ كم كنت غبيًا وساذجًا! ها أنذا ألقى المصير ذاته، الموت إما جوعًا في هذه الفجوة المظلمة أو بين فكّي القط مثل نهاية الصرصور في الحكاية السابقة. ألا ترون! ألا تدركون! مصائرنا مشتركة. إننا نواجه الموت ذاته دائمًا، ولكننا لا نعي الأمر بعد. إني أدرك ذلك الآن، وقد يبدو كلامي غريبًا إلا أني أعتبر نفسي محظوظًا لأني حصلت على بعض الوقت قبل موتي كي أعي الحقيقة وأواجه موتي بشجاعة ووعي كاملين.

أنا أواجه الموت الآن وأتساءل إن كان إخواني الصراصير، الذين واجهوا الموت قبلي وتسنى لهم بعض الوقت كي يتأملوا مصيرهم المحتوم؛ أتساءل إن كان هؤلاء قد أدركوا مثلي ما أدركته وفكّروا بالأشياء ذاتها؟ هل أدركوا ما واجهناه نحن الصراصير طوال تاريخنا من ظلم واحتقار؟ هل أرادوا مثلي التعبير عن أفكارهم؟ هل ثمة صراصير غيري سجّلوا أصواتهم في هذا الفضاء الرحب كي يسمعهم العالم، وخاصة إخوانهم الصراصير؟ وهل سيأتي يوم يُكشف فيه عن هذه الأصوات التي تحملها "الريح"؟

اقرأ/ي أيضًا:

خارج اللغة داخل سيجارتك

حظٌّ سيئ أثناء الشوبنج