08-أغسطس-2016

إدوار شهدا/ سوريا

عندما يبدأ الحنين بالهطول، أغلق نوافذ الحاضر لأن الذكريات سوف تسيطر عليك، ستملأ المكان ويتلاشى أمامها الزمان.

الحنين هو رشفةٌ صغيرةٌ من صوتك لِتُروى روحي العطشى إليكِ. كانت ألف غابةٍ من الحزن تسكن عينيك، وأحلامي الطائرة تهوى الظلام.

أكتب إليكِ بحروفٍ لم تُعرف في أحرف الهجاء، أخرج دفتر صدري أفتش أوراقه ورقةً ورقة ومن ثم أعود لأنظر في هوامشه، لا أجد فيه غيركِ، أبحث عبثًا عن هواءٍ لست فيه، أترك قلبي المفتون فيك لديك وأمضي، كبريائي الذي ظل يرافقني إلى أن التقيتك تحول إلى ضعفٍ يتبعني فقط. هو أنا، ضعفٌ تدمع عيناه وهو يرتشف آخر أنفاس صوتك، تنهيدةٌ أتعبت الصدر من حملها، أفكارٌ يعبث بها الماضي كيف يشاء. 

لقاؤنا الأول في كافيتيريا الطب البشري في جامعة دمشق كنت حينها خائفًا على خدك أن يجرح بنظراتي المفتونة فيكِ، كنت كاذبًا عندما أخبرت دخان سيجارتك أنني أكره منظر المرأة المدخنة، في الحقيقة الدخان في فيكِ له لغة أخرى تختلف عن اللغتين، عن لغة الهجاء، وعن اللغة التي سأكتب لكِ فيها: كنتِ عصفورةً تتمتع الأغصان بصوتها، وأنا تلك الشجرة التي تحب أولادها لجمال من يحملن، كنت نحلةً وجميع الأزهار تنظر بلهفة مشتاقٍ كي تحط عليها، وكنت ذلك الرحيق الذي يهوى العسل، كنت ياسمينةً أعطت لياسمين دمشق سحره، وكنت بائع العطر الذي لم يعطر قلبه بسواكِ، كنت طفلةً تلعب بكل من حولها، وكنت مجرد دميةٍ ترنو بعيون الخيال كي تلمسيها، أو حتى تحرقيها بنار سيجارتك التي أحرقتها من الداخل وأبقت مظهرها الخارجي فقط، شهيقي المأخوذ من زفيركِ الممتزج بـ(CO1) تحول إلى أكسجينٍ فقط.

"الظاهر متلبك" سؤالك زاد في احمرار وجهي، وبدت قطرات العرق المنسكبة من وجنتي كسيلٍ جارف يُهلك من يواجهه، ازداد ارتباكي أكثر فأكثر بعد سؤالك هذا، وزاد معه صمتي في حرم الجمال، كنت خائفًا أن أُخطئ بنظرةٍ، أو أن يعلو صوتي فتخدش أذناكِ، وكان يحلو لي رقص نبضي على أنغام صوتك الذي أخفق جلاله في إخفاء جماله. صخب الكافيتيريا وضجيجها أيضًا أخفقا في إخفاء رقته ونعومته.

تقترب الساعة من الحادية عشر، أسألك "وشو يعني؟"، ابتسامتك التي سبقت الإجابة حكمت بموت جميع ضحكات البشر التي تليها، ولم يعد في مخيلتي ميليمترًا واحدًا ليملأ بابتسامة غيركِ، إجابتك التي أعلنت جلسة انتهاء الحكم بضربات ثلاث على طاولة الجمال بمطرقة الزمن، "آسفة بس صار وقت محاضرتي ولازم أمشي". 

نهضت عن الكرسي وقلتِ آخر كلماتكِ "منلتقي إن شاء الله" تمنيت أن يسير الزمن سريعًا إلى الأمام كي يكون اللقاء قريبًا ولكن... لكن اليوم بعيدةٌ إلى حد التلاقي.

بدأ الزمن ينطق بحكمه:
أولاً: المسافة التي بين نبضٍ ونبضٍ اليوم تعادل المسافة التي بين الأحياء وحكمة الموتى.
ثانياً: لن تُروى روحكَ بعد اليوم، فصوتها مثل جلجامش خالدٌ فقط في ذكراه. 
ثالثاً: أبقِ على قلبك واقفًا عن النبض حتى تلملم أجزاءك المتناثرة فيها.
أرنو إلى نفسي فأجد أن الزمن بعد نطقه بالحكم لفني بقول العباس ابن الأحنف: "أموت شوقًا ولا ألقاكمُ أبدًا/ يا حسرةً ثم يا شوقًا ويا أسفًا".

اقرأ/ي أيضًا:

الخاصرة مسكن الفرسان

عنا، نحن المساكين