02-سبتمبر-2021

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

تسمَّمَتْ دجاجات أم صابر ولا أحد يعرف الفاعل إلا أنا.

حدث ذلك كما يتذكر أهل المنطقة جميعهم قبل ولادة أم علي لبكرها علي بساعة فقط، وهذا شيءٌ لن ينساه أحد، لأن الأم توفيت أثناء ولادتها، كان يومًا مشؤومًا، وشاءت الأقدار أن تشاركنا الطبيعة حزننا، فأمطرت السماء بغزارة كما لم تمطر من قبل.

ارتبط صراخ أم صابر بصراخ الناس، وارتبط كل ذلك بذهني بقوة، وحتى الآن لا أدرك أبدًا لماذا انتبهت وحدي أيضًا إلى أن الشامة التي كانت تتوضع على خد أم علي كانت تشع بضوءٍ أخضر قوي.

وعندما أذكّر أمي أو خالتي العانس بذلك، تهزان برأسيهما باستغراب وتتابعان بحسرةٍ التغني بجمال وأنوثة المرحومة.

علي الآن شاب يصغرني بست سنوات. أسود الشعر وكث الحاجبين وذو ملامح قاسية اكتسب خشونة مظهره كما قد يعتقد أي قاص أو روائي من مهنته الصعبة، فعلي يعمل كحمّالٍ في سوق الهال وهذا ما يفسّر خوف كل الصبية منه. فقد طور بنيةً عضليةً تضاهي قوة رجلٍ وهو لا يزال في عمر الخامسة عشرة. غير أن هذا لم يمنع أحدًا من التهكم سرًا على مشيته الغريبة كغرابة مشية طائر اللقلق، وبما أنه تربى على يد والده الذي رفض الزواج بعد أمه، فقد افتقد للاختلاط بأي طفلٍ منذ صغره. كان والد علي (خياط الفقراء) كما يطلق عليه الناس، ويكفي أن تناوله أية قطعةٍ نقديةٍ ليرضى بها كأجر، ويستغرب أي شخص فعلًا من براعة هذا الخياط، لدرجة أن الجميع يؤكدون أن كل من يلبس ثوبًا من خياطة أبي علي لن يستطيع أبدًا أن يمزقه حتى ولو تعمّد هذا.

كان أبو علي يصطحب ابنه معه لورشته الصغيرة واعتاد أن يجلسه أمام مكنة الخياطة، وأن يجلس هو قبالته في الجانب الأخر، وكان الطفل يراقب كل شيء بدقة، ألوان القماش، وتحبيكات الخيوط، وعروق يدي والده، ومكوك المكنة، ولكن أكثر ما كان يأسر تركيز الفتى كان إبرة المكنة لدى اختراقها للقماشة المسكينة، وكيف كانت ترسم طريقًا من الخيوط عبر تعرجاتٍ غريبة. غير أن ما غيَّر سياق حياة الفتى الطبيعي، كان توقف الإبرة ذات يوم في منتصف طريقها فجأة. كان الهدوء قد أعلن سطوته، وانتشرت في المكان رائحةٌ تشبه رائحة التراب عندما يبلله الماء. رفع علي نظره إلى والده و رآه كيف يهوي برأسه على الآلة التي بدأت إبرتها بالتراخي عن الحركة رويدًا رويدًا، ظلا جامدين تماما لمدةٍ قد تمتدُّ لساعة. الولد كما اعتاد الجلوس والتأمل، وخياط الفقراء ميتًا، وهكذا فلم يتعلم علي مهنة والده. فقط كان يتلقى الرحمات بصمتٍ مطبق، كلما حدثه أحد ما عن مهارة أبيه محاولًا أن يسترق منه أية كلمةٍ، أو حين يتباهى آخر بجاكيت أو بنطال كان قد فصّله عند المرحوم.

كان الصبي قد بلغ السادسة حين قرر خاله أن ينزله برفقته ليعمل معه في سوق الهال. وهكذا فقد كلِّف الصبي بتوصل طلبيات وفواتير التجار من محل لآخر، وكان يتقاضى الإكراميات لقاء هذا العمل وبصمتٍ أيضًا. يكتفي الفتى في آخر النهار بأن يعطي خاله كل ما قبض من نقود إلا اليسير ليشتري به قليلًا من الحبوب لكي يطعم الطيور التي أحبها وأحبته، والتي كانت تتجمع قربه متى أراد، وكأنه كان يفهم لغتها وتفهم صمته العميق.

في السوق، سمع شتى المسبات والألفاظ الغريبة، وشاهد عراك العتّالين، وهناك عرف القبضايات. كان عالمًا ضخمًا جدًا بالنسبة لسنواته الستة، فالتزم الصمت تجاه أي شيءٍ قد يراه أو يسمعه، سيما أن خاله كان من أضعف حمالي السوق وأشدهم فقرًا. وهكذا ومع مرور الوقت فقد اكتسب الفتى لقب "علي الصامت" لم يسمع أحدٌ صوت علي أبدًا، ظن البعض أنه أخرس، واعتقد آخرون أنه لا يملك لسانًا ولك أن تتخيل ما قد يتبادر من قصصٍ غريبةٍ في عقول الفضولين ومحبي الخرافات، فالبعض يجزم أن الولد قد نزل صامتًا من بطن والدته وآخرون يقولون إنه فقد النطق حين توقف مكوك مكنة والده، أنا الوحيد الذي سمع صوت علي وأقسم بكل عظيمٍ أنني قد سمعته يغني ليلًا. حدث ذلك صدفةً بينما كنت راجعًا من سهرةٍ أنفقتها في بيت أحد الأصدقاء وإليكم ما شاهدته بدقة. كان علي يطير فوق الحقل الذي يتربع خلف بيتنا، وكان يغني بملء صوته، وكانت تشعُّ فوق خده شامةٌ بضوءٍ أخضر متوهجٍ جدًا لدرجة أنه أضاء الحقل. وكانت بعض الطيور حينها على الأرض واقفةً وتنظر له بتمعن. لقد كان صوته الصوت الأجمل الذي سمعته في حياتي، ولكنه توقف عن الغناء حين لمحني وحطَّ على الأرض.

وعندها طارت الطيور مبتعدةً واختفى اللون الأخضر تمامًا. في البداية ظننت أنني كنت واهمًا وأن مفعول الكحول قد أثَّر على مخيلتي لكن واقعية الحادثة كانت بالنسبة لي صاعقةً جدًا لدرجة أنني حين تمشّيت في الحقل، وكان صوت علي لا يزال يتردد على مسامعي. وما زلت حتى الآن أذكر تمامًا لحن الأغنية وكلماتها حتى بعد مرور سنواتٍ على الحادثة.

لم يصدق أحدٌ أبدًا ما رويته حينها، ولذلك فقد تناسيت عمدًا ما أنا واثقٌ من صحته، فالأفضل كما أظن أن تعيش كما يعيش الناس لتستطيع أن تحيا، وربما يختلف أحدٌ ما معي، وربما أختلف مع نفسي لو أني فكرت بعمق أكثر قبل أن أنطق بما نطقت.

غير أن الجميع أخيرًا قد اقتنع فعلًا، وصدق ما كنت قد قلته منذ سنوات، فقد شاهد الجميع علي الصامت ذو الشامة الخضراء التي ورثها عن أمه يطير، ويرتفع عاليًا في السماء وهو يرتدي سترةً بيضاء كانت لأبيه، وذلك بعد أن أصابته طلقةٌ قاتلة وأردته شهيدًا. ولكن أحدًا لم يسمع صوت علي إلا أنا، ولم يعرف عما كان يغني إلا أنا. أنا الوحيد الذي سمعه، والوحيد يعرف من الذي كان قد سمّم دجاجات أم صابر بعد أن خلط سم الفئران مع الحبوب ليجرب ما قد يحصل للدجاجات، لأنني كنت الشقي الذي فعلها.

سنوات طويلة مضت منذ اختفى علي لكن صيته كان يكبر باستمرار، فقد استيقظ أهل المنطقة يوما ما ليجدوا أن شجرة ضخمة غريبة الأغصان والأوراق قد نبتت في مقبرة الحارة حيث دفن علي، أكد الجميع بأنها نبتت في ليلة واحدة فقط وأنها لم تكن موجودة قبل تلك الليلة.

كانت تحمل ورودًا كبيرة كأنها قناديل معلقة، زرع ذلك الخوف والرهبة في النفوس، وسارع البعض مساء للصلاة قربها وتلاوة القرآن، وحدهم الصبية ابتعدوا عن المكان خشية من القبور.. ومن يدري ماذا يمكن أن يحدث لولا أن شيخ الجامع أقلقه الأمر ووجد في الشجرة وثنا يجب قطعه، فخطب في الناس غاضبًا ومتوعدًا ثم عاجل بقطعها وحرق جذعها على مرأى ونظر الجميع.

يتفاخر البعض ممن امتلك معطفًا خاطه والد علي بما يمتلك كما لو أنها قطعة ثياب ورثها من ولي صالح.

ويدعي آخرون بأن حوادث كثيرة غريبة حصلت معهم حين شاهدوا عليًا أو حضر لزيارتهم في أحلامهم.

وحدها الطيور من تعلم حقيقة ما حدث.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تينيسي ويليامز: كزوج من الدمى أوقعها طفل يشعر بالملل

هل لأحد الطيور حياة نابليون بونابرت؟