05-يناير-2023
ساباتو ورواية النفق

ساباتو ورواية النفق

يهدي إرنستو ساباتو روايته "النفق" للرّسام والروائي وعالم الفيزياء: "إلى صداقة روخيلو فريخير التي صمدت لكل آمال الأفكار وتقلباتها"، ثم يقول في صفحة ما قبل البداية: "كان هناك، في جميع الأحوال نفقٌ واحد، مظلمٌ وموحش، هو نفقي أنا".

يستند السرد الروائي في البداية على صيغة اعترافية: "سأكتفي بالقول إني خوان بابلو كاستيل الرّسام الذي قتل ماريا إيرببارني". ومن هنا يتضح إن القاتل هو بابلو كاستيل غير العابئ بالذاكرة الجمعية مشيرًا بذلك بقوله إن الذاكرة الجماعية لا تعدو أن تكون شكلًا من أشكال الرغبة في حفظ البقاء، أو شكلًا من أشكال دفاع الجنس البشري عن ذاته.

النفق هو عبارة عن القيد الاجتماعي أو السياسي أو الديني، ويكون له تمثلات في المجتمع ومن ضمنها الآراء والأفكار السائدة لذا دعا إلى التحرر كي يعش الإنسان بطمأنينة

في قاعة الربيع عام 1946، عرض خوان بابلو كاستيل لوحته التي سمّاها "الأمومة"، كانت على غرار لوحاته السابقة التي كان النقاد يقولون عنها، في لهجتهم التي لا تطاق، إنها متماسكة، جيدة البناء، شيء من العمق الفكري، كانت تنطوي على الكثير من المزايا التي يجدها أولئك الثرثارون في لوحاتي حسب تعبير خوان نفسه. ما لفت نظر خوان في المعرض، فتاة واقفة أمام لوحته تلك لفترة زمنية طويلة. راقبها بقلق وتأكد أنها منصرفة عن العالم بأسره لا ترى الناس من حولها من شدة انشداهها باللوحة. كان لـ خوان رغبة في مناداتها، لكن هاجس الخوف سيطر عليه إلى أن توارت بين جموع الملايين المجهولة من سكان بوينس آيرس، لذا عاد إلى منزله في تلك الليلة حزينًا متوتر الأعصاب، لكنه لم يفقد الأمل من اللقاء بها، فرغم انتهاء مدة المعرض كان خوان يقف قريبًا من اللوحة، لكن عبثًا، لم تظهر ماريا مرة أخرى.

من جهة اليسار في أعلى اللوحة نافذة صغيرة يلوح منها منظرٌ صغيرٌ وبعيد، هو منظر شاطئ، منعزل، وامرأة تنظر إلى البحر وكأنها تنتظر شيئًا ما، ربما كان ذلك الشي نداءً خافتًا، تلك هي تفاصيل اللوحة، كان المنظر يوحي برأيي بوحدة قلقة ومطلقة حسب تعبير خوان بابلو كاستيل.

لماذا كانت ماريا تحدق في اللوحة؟ لأن السماء الصافية في اللوحة ذكرتها بـمنظر سماء تينتوريتو الرّسام الإيطالي التي تميزت لوحاته بالتباين الشديد، وهذه اللوحة ذكرتها بلوحة إنقاذ إسماعيل لـ تينتوريتو، وتلك المرأة المعتزلة في نافذة اللوحة جعلتني أشعر أن خوان مثلها هي، ويبحث بصورة عشوائية عن أحدٍ ما.

رواية النفق دعوة إلى الحرية، وتأكيد على ذاتية الفرد من خلال التحرر من ثقافة القطيع، وأن يكون الإنسان ذاتهُ في تلك الحُرية، وألا ينخرط في الوجود المبتذل وكي نجفف مستنقع التعبد الآسن. فحتى الأعمى أجيندي زوج ماريا أيضًا كانت لديه رغبة في النظر إلى تلك اللوحة، لِما تحتويه من نافذة مطلة على منظرٍ يبعث أوكسجين طبيعيًا إلى شريان الحياة.

إذًا، النفق هو عبارة عن القيد الاجتماعي أو السياسي أو الديني، ويكون له تمثلات في المجتمع ومن ضمنها الآراء والأفكار السائدة لذا دعا إلى التحرر كي يعش الإنسان بطمأنينة.

إرنستو ساباتو الأخ العاشر بين ترتيب أخوته، وُلد في حزيران/يونيو1911 بعد موت شقيقه التاسع بقليل، لذا حمل اسمه إرنستو. وهو من عائلة إيطالية مهاجرة، من الطبقة الوسطى. درس الفيزياء وأغرته العلوم البحتة العلوم وفي منتصف الأربعينات ترك العلوم دون رجعة وتفرغ في سنواته الأخيرة للكتابة الأدبية، حيث كتب ثلاثية أدبية هي: النفق 1948، أبطال وقبور 1961، أبادون المبيد 1974. وفي أيامه الأخير ضعف بصره متخليًا عن الكتابة الأدبية متفرغًا للرسم. لم يكن ساباتو شخصية أدبية لافتة عالميًا فحسب، بل كان سياسيًا فذًا ترفع له قبعة الاحترام والأجلال في اوساط بلاده السياسية لنضاله ضد الدكتاتورية.

عربيًا، صدرت الرواية لأول مرة عن دار المأمون في بغداد، بترجمة مروان إبراهيم الصديق، وذلك في عام 1987، لتصدر بعدها عن دار الأهالي في دمشق بترجمة عبد السلام عقيل.