26-يوليو-2023
كاريكاتير لـ ستيلينا تشين/ تايوان

كاريكاتير لـ ستيلينا تشين/ تايوان

لا نعرف كيف علقنا في هذا النقاش الذي يكاد يصبح أبديًا.

نحن شلة أصدقاء من تخصصات وبيئات مختلفة، جمعنا السكن في إحدى الضواحي، التي لم تنقرض الخضرة منها تمامًا بعد، وهكذا اعتدنا أن نتمشى صباحًا فيما نسميه "أحضان الطبيعة"، وهي في الحقيقة بضع واحات صغيرة من أشجار الزيتون والحشائش الخضراء، متناثرة بين كتل الإسمنت المتوعدة بمزيد من النمو والتضخم..

كنا نتحدث في كل شيء، في السياسة والاقتصاد والشعر والسينما والمرأة والحب والموت.. إلى أن طرح أحدنا سؤالًا ذات يوم: هل نستحق، نحن شعوب المنطقة العربية، الديمقراطية حتى نطالب بها؟ هل نحن جاهزون لها الآن؟ وسرعان ما صار هذا حديثنا الدائم وشبه الوحيد، وسرعان ما شهدنا انقسامًا دائمًا أيضًا: البعض يجيب بـ"لا" والبعض الآخر بـ"نعم".

التنوير الحقيقي هو الذي يجري في مناخ ديمقراطي، وإلا فإنه يغدو مجرد شعار أجوف تضيفه دوائر الحكم إلى شعاراتها الطنانة التي تحاول عبرها تبرير وجودها ودعم مشروعيتها الزائفة

القائلون "لا" يرون أن الديمقراطية ليست عصا سحرية، نستطيع أن نحل بها كل مشكلاتنا دفعة واحدة، كما أن إيجادها وتطبيقها لا يتم أيضًا عبر عصا سحرية.. إنها نتيجة حراك اجتماعي تاريخي طويل، يمر بإصلاحات وتغييرات كثيرة تمهد الأرض وتعدها لتكون صالحة لاستقبال بذرة الديمقراطية. فنحن لا نزال قبائل وعشائر وطوائف، وبعيدين تمامًا عن مفهومي الوطن والمواطنة، وبعيدين بالتالي عن اللعبة السياسية الحضارية التي تجسدها الديمقراطية.. وإذا ما حلت علينا الديمقراطية اليوم بطريقة ما، فلن ندخلها عبر أحزاب وأفكار واتجاهات وأيديولوجيات.. بل عبر قبائلنا وعشائرنا وطوائفنا، ما يعني مشروع حرب أهلية لا تنتهي.. ثم ما الذي سوف يصنعه في الديمقراطية، وبها، مجتمع يعيش في ظل الأمية العلمية والثقافية ولا يزال محكومًا بالغيبيات.. لا بد إذن من حركة تنوير طويلة المدى تضع شعوبنا عند الحد الحضاري الذي يتيح الديمقراطية..

والقائلون "نعم" يرون أن الديمقراطية ليست مكافأة نهاية الخدمة، وليست جائزة تمنح لمن حاز شهادة حسن سلوك.. إنها مدرسة يتم فيها التعلم الدائم، تعلم الديمقراطية عبر الديمقراطية، وكما أن من الجائر الحكم على ابنك أنه لا يستحق التعليم دون أن تكون قد أدخلته المدرسة، فمن الجائر كذلك أن تحكم على شعوب أنها لا تستحق الديمقراطية وهي لم تجربها ولم تذق طعمها يومًا..

ثم أي تنوير متاح اليوم؟ ومن ينور من؟ وكيف للنخب المنوط بها ذلك أن تتصدى لهذه المهمة وهي مكبلة بأغلال الخوف والتضييق وكتم الأنفاس؟

التنوير الحقيقي هو الذي يجري في مناخ ديمقراطي، وإلا فإنه يغدو مجرد شعار أجوف تضيفه دوائر الحكم إلى شعاراتها الطنانة التي تحاول عبرها تبرير وجودها ودعم مشروعيتها الزائفة.

وأليس من السذاجة أن نحاول اختراع العجلة مجددًا.. أن نحاول استنساخ التجربة الأوربية منذ بداياتها، فننتظر ثلاثمئة أو أربعمئة سنة حتى نغدو مؤهلين للديمقراطية؟

ألم تعتد الثقافات، عبر التاريخ، أن تقطف الثمار المعرفية والحضارية الجاهزة والناضجة من بعضها البعض؟.

القائلون "لا" يتهمون القائلين "نعم" بالتفاؤل المفرط والساذج، وبأنهم يقفزون فوق التاريخ ومعطيات الواقع الصلبة. والقائلون "نعم" يتهمون القائلين "لا" بأن خطابهم ينطوي على تشاؤم يقترب من حدود العدمية.. ثم ماذا يعني أن تعتمد هذا التصنيف: شعوب مؤهلة للديمقراطية وأخرى غير مؤهلة.. ماذا يعني هذا سوى العنصرية؟

لست متيقنًا مما يدور خارج شلتنا، أما داخلها فالنقاش لا يزال دائرًا وعلى أشده، ولكن دون عداوة أو خصام، والأهم دون اللجوء سوى للكلام.. وفي هذا إشارة جيدة تصب في مصلحة القائلين بـ "نعم نحن نستحق الديمقراطية".