24-يوليو-2023
الذكاء الاصطناعي في الصحافة العربية

حين سألني أحد الأصدقاء عن الذكاء الاصطناعي والابتكار في صناعة الأخبار عربيًا، أخذني السؤال إلى مكان بعيد، وكأنه حبّة هلوسة قويّة، فتخيلت أني جالس في "كوفي هاوس" مطلة على أحد شوارع السليكون فالي، تقدّم أنواع القهوة العضويّة الأكثر غرابة وندرة، وتلتزم بأعلى معايير الاستدامة البيئية، وتقع قرب مثلّث الشركات الكبرى المهيمنة في هذا القطاع. تخيّلت وكأن السؤال قد خطر على بال صاحبي حين مرّ من أمام الواجهة الزجاجية الضخمة للمقهى الحصريّ، سام ألتمان ومعه عدد من رفاقه التنفيذيين، وهم يضحكون من لقائهم الأخير بالرئيس الأمريكي في البيت الأبيض، ووعودهم الفارغة التي قدموها بين يديه للحفاظ على سلامة الكوكب، أو الأمريكيين فيه تحديدًا، من مغبّات المنافسة المنفلتة في تطوير برمجيات المحادثة الآلية ونماذج اللغة الضخمة. 

تمثّل الإستراتيجية التي أعلنت عنها "أريج" ووفرتها للمهتمين بشكل أنيق وسهل التصفّح على موقعها، خطوة ضرورية إلى الأمام، نحو الكتابة العربية المنهجية عن هذه التقنيات وأشكالها، وضبط مصطلحاتها ومحاولة تعريفها وتقريبها إلى القارئ العربي

سرح بي هذا الخيال قليلًا، قبل أن أبدأ بالتفاصح أمام صديقي حول رأيي بالابتكار التقني في العمل الصحافي، أو في العمل الكتابيّ الرقميّ عمومًا من ترجمة وتأليف وتحرير وتدقيق ونشر وترويج. الجواب باختصار آل باتفاق بيني وبين صاحبي إلى خلاصة أساسية، وهي أننا عربيًا ما نزال خارج حدود التأثير المباشر لهذه التقنيات، وليست لدينا نماذج محليّة أنتجناها نحن، أو خضعت على الأقل للتبيئة في أرضٍ عربية، تستوعب من قواعد البيانات بلغتنا ما يتيح الحديث عن تبعاتها في أعمالنا اليومية، أو مستقبل وظائفنا. أخبرني صديقي محقًا بأنه معنيّ أكثر بالنقاشات حول هشاشة الوضع القانوني للصحفيين عربيًا، والبيئة المستحيلة التي يعملون بها، وافتقارهم إلى أي سندٍ راسخ نقابيًا وشعبيًا، وأن فكرة هذا الذكاء الاصطناعي والتوحّش منه قد يكون قاصمًا على عدة مستويات، وهذا صحيح طبعًا.

في الأسبوع الماضي، أطلقت مؤسسة صحفية عربية إستراتيجيّتها للذكاء الاصطناعي، والتي وضعتها بدعم من مبادرة جوجل للأخبار، بعد أن فازت بالمنحة مع عدة مشروعات أخرى اختارت المؤسسة دعمها في المنطقة العربية. هذه المؤسسة، هي شبكة "أريج" للصحافة الاستقصائية، وتمثّل الإستراتيجية التي أعلنت عنها ووفرتها للمهتمين بشكل أنيق وسهل التصفّح على موقعها، خطوة ضرورية إلى الأمام، نحو الكتابة العربية المنهجية عن هذه التقنيات وأشكالها، وضبط مصطلحاتها ومحاولة تعريفها وتقريبها إلى القارئ العربي، ودعم جهود التوعية بها بعيدًا عن التبشير المفرط بالتفاؤل بها أو الإنذار الغرقان في التهويل والتشاؤم منها، بتأثّر من الانفعالات الغربيّة السائدة والتخيلات العلمويّة القديمة الجديدة التي تحيط بها، والتي تصلنا عبر  الأدب والسينما والصحافة ومنصّات التواصل الاجتماعي.

زكي وزكية الصناعي

توضّح أريج الهدف من الإستراتيجية التي وضعتها، وهو هدف طموح، يرغب في تمهيد الطريق، ليس أمام الشبكة وحسب، بل أمام "كل المؤسسات الإعلامية العربية الصغيرة والمتوسطة" للدخول إلى "عالم الذكاء الاصطناعي". الإستراتيجية بحسب هذا الوصف هي خارطة طريق، بادرت الشبكة في رسم معالمها الأساسية، بناء على الإرهاصات بشأن مستقبل العلاقة بين عالم الذكاء الاصطناعي والصحافة وغرف الأخبار، وأثرها في عمليات جمع وتحليل البيانات، أو الكتابة والتحرير والمراجعة وتدقيق المعلومات، وحتى النشر والترويج وإدارة المحتوى والتعليقات وإشراك الجمهور، وتسخير ما توفّر من هذه الإمكانات لدعم الصحفيين العاملين باللغة العربية ومؤسساتهم.

ووفق ما يرد في مقدمة الإستراتيجية على موقع "أريج"، فإننا سنكون قادرين عند دمج الذكاء الاصطناعي في دورة العمل الصحفي، على أتمتة بعض المهام اليدوية العسيرة التي تستهلك الكثير من الوقت والجهد، كتلك المتعلقة بالبيانات جمعًا وتحليلًا، إضافة إلى "إنتاج المواد الصحفية القائمة على البيانات الضخمة". كما تحدثت المقدمة عن دور الذكاء الاصطناعي في عمليات تكييف المواد الصحفية وطريقة عرضها ووصولها إلى الجمهور، بحسب ما يمكن رصده من بيانات المستخدمين ونمط سلوكهم واستهلاكهم في الفضاء الرقمي وموقعهم الجغرافي، وبما يسمح وفق هذا التصوّر بتوليد "محتوى متخصص، ونشرات إخبارية، وتجارب تفاعلية". إلا أن طموح الإستراتيجية والقائمين عليها لا يقف عند هذا الحدّ، بل ثمة آمل بأن يساعدنا الذكاء الاصطناعي، في العالم العربي، على رصد التحيزات في البيانات ووجهات النظر في الممارسة الصحفية، وتفعيل دور هذه التقنية في "القضاء على التحيزات اللاواعية"، طبقيًا وعرقيًا وجندريًا.

استراتيجية أريج

هذه الأهداف يختصرها التعريف الخاص الذي تبنّته أريج للذكاء الاصطناعي في المجال الصحفي، والذي حاولت الشبكة أن يحيط بالعمليات المختلفة في هذا السياق، مثل عمليات جمع الأخبار والبيانات، وعمليات إنتاج المحتوى، وعمليات توزيع وتخصيص المحتوى ومعالجته. وقد جاء التعريف على النحو الآتي: “مجموعة من التقنيات، التي يمكن أن تساعد فريق أريج وتمكّنه، من خلال تقديم رؤى ودعم آلي، لتنفيذ مجموعة من المهام التحريرية والتشغيلية والتواصلية. في أيّ استخدام للذكاء الاصطناعي في عمل أريج، يجب مراعاة المعايير الأخلاقية الأساسية".

هذا التعريف الآمن والجامع (غير المانع)، لا يترك شيئًا قابلًا للأتمتة إلا ويدخله في الإستراتيجية وما تعتني به، من أدوات التدقيق الإملائي في البرمجيات المكتبية، وانتهاء بأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية، التي أثار تطوّرها المذهل كما تكشّفت عنه الأشهر الماضية، كل هذا الزخم والاهتمام والمخاوف، وهي مع ذلك هامشيّة في إستراتيجية "أريج".

أمعنت النظر في الإستراتيجية وفصولها، بحثًا عن أي شيء عربيّ فيها، بمعنى أن يكون "accessible" للصحفي العربي، أي بمتناول اليد، وبلغته التي يفهمها، وبلغة البيانات التي ينشف ريقه بحثًا عنها، هذا إن لم يسجن ويلاحق قانونيًا دونها في بعض الدول العربية، لكني لم أجد سوى القليل. فالأمثلة العشرة التي عرضتها الإستراتيجية عن أدوات الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، تسعة منها في مؤسسات أجنبية، منها مثلًا أداة "هيليوغراف" في الواشنطن بوست والخاصة بتوليد المحتوى الصحفي السردي، بالاعتماد على معالجة بيانات ضخمة باللغة الطبيعية (الإنجليزية طبعًا)، وهي تقنية أطلقتها الصحيفة الرائدة في صحافة السرد، في نهاية العام 2020. من بينها أيضًا تقنية "سالكو" من بي بي سي، والأدوات التي طوّرتها مؤسسة "غيتي" والفايننشال تايمز ورويترز وغيرها في توليد الأخبار والمقالات ومعالجتها أو جمع وتحليل البيانات. أمّا المثال العربيّ الوحيّد على تطبيق هذه التقنيات في غرف الأخبار، فهو الروبوت "ابتكار"، والتي قدمتها قناة الجزيرة على سبيل الدعابة غالبًا في مؤتمر للذكاء الاصطناعي مؤخرًا واستعراضها كنموذج مستقبلي عمّا يمكن لهذه التقنيات القيام به في قطاع الأخبار. وعلى خلاف الأمثلة التسعة الأجنبية، كان هذا المثال الأخير دليلًا حاسمًا على أنّ الإستراتيجية التي قدمتها شبكة "أريج" لا تعني السياق العربيّ إلا بشكل غير مباشر في غالبية الأدوات المتوفّرة، في هذه المرحلة على الأقل، وخاصّة فيما يتعلّق بتطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدية، أي تلك التي تتعامل مع اللغة الطبيعية المكتوبة أو المسموعة، لتوليد نصوص أو صور أو مقاطع فيديو. 

الدليل على أهمّيته البالغةوشموله، يطرح سؤالًا مبتورًا حول "استخدامات الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار"، والجزء المبتور من السؤال هو [في غرف الأخبار العربيّة]، وذلك عائد بشكل أساسيّ للوعي بأننا نفتقر إلى أدوات عربيّة في هذا المجال، كأن يكون لدينا نموذج توليديّ صحفيّ يساعد الصحفيين الرياضيين مثلًا في توليد مقالات خبرية تعلّق على نتائج ومجريات مباريات ومنافسات رياضيّة من مختلف الرياضات، ووضعها في قالب أساسي مقروء قابل للتحرير الأساسي والنشر في المنصّات الرقميّة، أو يساعد على توليد ملخّصات عربية يوميّة للأخبار ووضعها في قالب رسالة بريديّة قبل تحريرها من صحفي ناطق/عاقل ونقر زرّ الإرسال للمشتركين بها، أو أداة تساعد الصحفي على اختيار الصور بشكل آلي لتقريره الصحفي، عبر قراءة النص وتوليد الصور المناسبة أو تحديدها على الشبكة.

ثمّة أسباب أوليّة معروفة لهذه المعضلة، منها ضعف البيئة التقنية الحاضنة لمشاريع الذكاء الاصطناعي في العالم العربي، وقصور النماذج السائدة عن استيعاب اللغات الأخرى سوى الإنجليزية، إضافة إلى ما تقرّ به إستراتيجية "أريج" نفسها من النقص الفادح في البيانات في اللغة العربية في العديد من المواضيع، وصعوبة الوصول إليها حتى لو كانت متوفّرة، وهو ما يعني فقر المادة الأساسية الضرورية لتدريب أي أدوات ذكاء اصطناعي عامة أو متخصصة (صحفية مثلًا).

ولنأخذ هذا المثال التقريبي السريع، وهو موسوعة ويكيبيديا. بحسب تقرير ضخم على نيويورك تايمز حول مستقبل هذه الموسوعة الضخمة وتكهّنات موتها مع تغوّل نماذج الذكاء الاصطناعي، مثل تشات جي بي تي، وبارد حاليًا، وغيرها. بحسب هذا التقرير، فإن مقالات موسوعة ويكيبيديا تمثّل نسبة وازنة من مجمل البيانات التي يعتمد عليها نموذج "تشات جي بي تي"، تصل إلى 3 بالمئة أو أكثر، تتيحها المؤسسة بحريّة كاملة للشركة المطوّرة لهذا النموذج وغيره. بمقارنة سريعة بين النسخة الإنجليزية من الموسوعة، التي ينشط عليها أكثر من 40،000 محرّر متطوّع، والنسخة العربية، بحوالي 5،000 متطوع فقط، والفرق الذي يبلغ عدة أضعاف في عدد المقالات، والفرق الكبير بين النسختين في نطاق المدخلات وحجمها، ولو افترضنا أن الموسوعة بنسختها العربية الحالية قد تكون مرشّحة لتكون مصدرًا أساسيًا لأي نموذج عربي توليدي في المستقبل، فلا شكّ أن التباين في الجودة والكفاءة سيكون صارخًا.

الذكاء الاصطناعي عربيًا والابتكار اللامسؤول

تواصلت "أريج" معنا في شبكة "التراصوت" في الفترة التي سبقت الإعلان عن إستراتيجية الذكاء الاصطناعي، لاستطلاع رأينا في عدة قضايا أساسية تتعلق بالذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في العمل الصحفي الرقميّ، وبدا أن ثمّة اتفاقًا مشتركًا خلال الحوار على أن الذكاء الاصطناعي ليس أولويتنا، ومع التفهّم الطبيعي لذلك، بالنظر إلى هذه التحدّيات الأوليّة التي تمسّ ذات البنية التحتيّة التقنية والتشريعية والمادية التي يعمل بها الصحفيون، وهو ما تشير إليه الشبكة في إحدى فقرات الإستراتيجية بكل شفافية ووضوح:

"لا يمكن أن نطلب من مؤسسة إعلامية في العالم العربي، تواجه الكثير من التحديات المالية، القانونية والجسدية الصعبة، وتعمل في بيئة معقدة تتعرض فيها للقمع، التوقيف، الاختراق وغيرها من الانتهاكات، أن تعتبر الذكاء الاصطناعي أولوية لها. الذكاء الاصطناعي ليس أولوية في المؤسسات الإعلامية، بقدر ما هو حاجة"

غير أن هذا الموقف لم يمنعنا في التراصوت من الخوض في تجربة الاستفادة من نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية، وسبر نطاقها، بل وكنا من بين الأسبق عربيًا إلى ابتكار شخصيات صحفية افتراضيّة (زكي وزكيّة الصناعي، وعارف كتّاب، وغيرها) وتوليد محتوى عبر هذه النماذج في مواضيع مختلفة، ومقالات رأي، وتوصيات شارحة في الثقافة والسياحة والرياضة والصحة، مع تطبيق قواعد صارمة لمراجعة المحتوى والتحقق من المعلومات فيه، والالتزام الكامل بالشفافية لتنويه القرّاء إلى أننا نوظّف نماذج مثل "تشات جي بي تي" أو "بارد" في توليد تلك المقالات أو أجزاء منها، وأنها خضعت للتحرير والمراجعة بما يلائم القارئ العربيّ، هذا عدا عن استخدام نماذج مثل "دالي-2" و"ميدجورني" في توليد صور لمقالاتنا، والاستفادة من قاعدة البيانات في هذه النماذج بحثًا عن صور ملائمة. 

ميسي
صورة مولّدة عبر نموذج "ميدجيرني" تتخيّل ليونيل ميسي مواطنًا عربيًا ينتظر مائدة الإفطار في شهر رمضان (التراصوت) 

في الوقت ذاته، لم تحل هذه الحماسة والأريحية في التجربة، دون تطوير رؤيتنا للصورة الأوسع لهذه الحالة في خضمّ شيوع الحديث عن الذكاء الاصطناعي ونماذجه. لم نشعر بالتهديد على الإطلاق، باستثناء تخوفاتنا العامّة من توظيف هذه التقنيات في توليد المحتوى المضلل وتسهيل عمل "مزارع" المحتوى الدعائي غير المنضبطة، والتساهل في الاعتماد على نماذج مثل "تشات جي بي تي" مع إهمال حقّ القارئ في معرفة المصدر الأصلي للمحتوى وطريقة إنتاجه ونشره وسياقه. من جهة أخرى، كانت لدينا مقاربة نقدية تتحوّط من الاندفاع المتحمّس لدعوات الابتكار التقني، في مجال ثقافيّ لغويّ بالغ التعقيد كالصحافة، والتعامل مع الأمر وكأنّ مقرّ "أوبن إيه آي" يقع في القاهرة أو الرياض، وأننا عربيًا قد جمعنا بياناتنا الضخمة وأجمعنا عليها (والإجماع هنا كما هو معلوم أصعب من الجمع، وهذا تحدّ مضاعف)، وأنّ مشاريع الصحافة العربية، التي تعمل في أعقد الظروف، والصحفي العربي الذي يحاول المثابرة في أحطّها، لن تنجو إلا حين نقفز عُميانًا إلى عالم الذكاء الاصطناعي، قبل فوات الأوان.

الابتكار اللامسؤول 

في دراسة حديثة نشرت في مجلة "الإعلام والاتصال" المفتوحة (Media and Communication)، يتحدث خمسة باحثين عن أثر الضغط القادم من خارج السياقات المحليّة على أداء المؤسسات الصحفية الصغيرة والمتوسطة، وتحديدًا في المنطقة العربية والقارة الأفريقية، وانعكاساته السلبية عليها. تتناول الدراسة تجارب لمشاريع عربية وأفريقية مع "مبادرة جوجل للأخبار" والمنح المالية التي تقدّمها لدفع عجلة التحوّل التقنيّ في غرف الأخبار والاستفادة من التقنيات الناشئة.

تجد الدراسة أن هذه المنح التي تقدمها جوجل، وهي منح مالية وحسب، لا دعم وإشراف تقني متخصّص، تمنح عادة على أساس سنويّ ضمن برنامج "تحدي التحول الرقمي"، تتحوّل في كثير من الأحيان إلى عبء على المؤسسات الصحفية التي تتلقاها، ويضاعف هشاشتها، ولاسيّما حين تدرك تحت ضغط الوقت وتخلّف البنية التحتية التي تعمل ضمنها، أنها أبعد ما تكون عن تحقيق اختراق ملموس ومستدام ومسؤول في جانب الابتكار التشغيلي التقنيّ في العمل الصحفي، وتظلّ لذلك قابعة على مشارف التنظير والتأطير العام التشريعي والأخلاقي، حتى لو أن الحاجة إليها ما تزال محدودة، باعتبار النطاق المحدود للممارسة نفسها. الابتكار هنا لا يتعدّى عتبة التوعية بما يمكن أن يكون، لو اختلفت الظروف، أمّا الابتكار على مستوى منتج بعينه، أو طريقة عمل، أو مبادئ تطبيق، وما يتبعها من تغيّر على مستوى هويّة مؤسسة إعلامية ما أو ثقافتها، فيبدو أنه ما يزال مقصدًا بعيد المنال.

وحتى لو تجاهلنا الخصوصية العربيّة في هذا السياق بالذات، وتركنا للحظة عرك آذاننا وجلد ذاتنا على التخلّف الحاصل، فإن ثمّة عوامل أخرى تدعونا للتأنّي وعدم حرق المراحل سريعًا. من ذلك مثلًا أن الابتكار في قطاع الصحافة عمومًا لا يسير عادة إلّا على وتيرة بطيئة، وهي ملاحظة تنوّه إليها الدراسة أعلاه، حيث تشير إلى تلك النزعة المعروفة في المؤسسات الإعلامية والتي تتحوّط من الابتكار وإدخال تغييرات جذرية على تقاليد العمل الصحفي وإجراءات العمل وإستراتيجياته وقواعده التقليدية القارّة، هذا عدا عن مقاومة الابتكار كخيار بقاء، لو اشتمّ فيه الصحفيون ولو من بعيد رائحة تسريحات أو بدايةً لمسار أليم تتخلّله تغييرات استبدالية واسعة.

تطلعنا الدراسة على أمثلة عديدة من تعثّر مشاريع ابتكار تقنيّة معقّدة في مشاريع صحفيّة عربية، من لبنان والأردن والمغرب وغيرها، وهي مشاريع لا نجد وجودًا لها ولا عنها إلا في هذه الدراسة المنفردة، والتي يشكو مؤلفوها أنفسهم، وهم أكاديميون من هولندا وفرنسا، والبرازيل، ونيجيريا وبوتسوانا، يشكون من ندرة الدراسات التي تبحث في العلاقة بين المنصّات الرقمية وشركات التقنية الكبرى، ونماذج تمويلها وتعاونها مع المؤسسات الصحفية في الجنوب العالمي. هذا الغياب للبيانات البحثية الموضوعية، كما أشرت في مقال سابق، يجعل مثل هذه المشاريع ينطلق من تصوّرات نمطيّة مسبقة، يتساهل المموّل في تعميمها، مع افتراض أن الأولويّات لا بدّ أن تكون واحدة، وأن الحلّ السحريّ، أي التقنية والذكاء الاصطناعي، لا بدّ أن يكون ناجعًا عند الجميع، وأن دعمًا ماليًا بسيطًا لمدّة عام واحد سيكفل ذلك.

تعترف إستراتيجية "أريج"، وهي مشروع رأى النور فعلًا ورأيناه، بخلاف مشاريع عربية أخرى لم نسمع عنها شيئًا وكأنها حصلت في كوكب آخر، تعترف كما أشرت أعلاه بأن الذكاء الاصطناعي ليس أولوية في المؤسسات الإعلامية العربية، وأن افتراضات مموّل كبير مثل جوجل حول أولوياتها، ليست صحيحة بالضرورة، وهو ما أتت هذه الدراسة التي صدرت مؤخرًا للكشف عنه على نطاق أوسع، والتدليل على أنّه واقع ضمن شكل جديد الابتكار "الجبري" من الأعلى، ومثال جديد على "رأسمالية خيريّة"، أثبتت عجزها دومًا وبلا استثناء يذكر عن تحقيق التنمية الحقيقيّة المستدامة في دول العالم النامي في أيّ قطاع، ناهيك عن قطاع الصحافة العربيّة التي تعتّرت وتعثّرت، ودخلت منذ سنوات طويلة في أزمات مؤسّسية ووجودية قاهرة.

 

 

للمزيد عن هذه الدراسة، يمكن مطالعة هذا الرابط.

للاطلاع على إستراتيجية شبكة أريج للذكاء الاصطناعي، انظر هذا الرابط.