22-أكتوبر-2017

ترجح التفاصيل الواردة عن هجوم الواحات احتمالية عدم معرفة وزارة الداخلية بطبيعة الحادث لفترة طويلة (رويترز)

الترا صوت - فريق التحرير

يرى البعض أن حادث هجوم الواحات الذي شهدته مصر أول أمس الجمعة 22 تشرين تشرين الأول/أكتوبر 2017، يُمثّل كارثة وطنية حقيقية، تكشف عن خلل عميق في الدولة المصرية.

وحتى اللحظة لا يُعرف على وجه الدقة متى بدأت الاشتباكات ومتى انتهت. فلا يمكن إذن بناء جملة على "بعد فترة كذا من الحادث"، بسبب أنه من غير المعروف يقينًا متى كان الحادث، سوى أنه يوم الجمعة. وهذا مثال بسيط عن طبيعة هذا الحادث النادر في غموضه، كما في تفاصيله المعروفة وغير المعروفة.

حتى اللحظة، لا يعرف على وجه الدقة، متى بدأت الاشتباكات ومتى انتهت، بسبب التعتيم الإعلامي من قبل الحكومة المصرية

تسربت معلومات أولية، بنيت عليها أنباء تم تداولها سريعًا، جميعها كانت منقوصة، لكن وسائل الإعلام عملت جاهدة في محاولة لبناء صورة تقترب من الحقيقة، على الأقل فيما يخص التفاصيل الأساسية عن الحادث: أين حدث، ومتى، ولماذا أو في أي سياق، وبالطبع أعداد القتلى.

اقرأ/ي أيضًا: "هجوم الواحات" في مصر.. قصة غير مكتملة عن حادث غامض وسط صمتٍ رسمي مريب

جهود وسائل الإعلام ووكالات الأنباء في هذا الصدد، كانت بسبب غياب أي معلومة من مصدر رسمي، فكما هو معلوم أصدرت وزارة الداخلية المصرية أول بياناتها بعد ما لا يقل عن ست ساعات من ورود أول الأنباء عن الحادث، وكان بيانًا بلا جدوى كما وصفه كثير من المراقبين. ثم أصدرت بيانًا آخر بعد 18 ساعة تقريبًا من البيان الأول، وقد بدا أنه فقط لإنهاء الجدل حول أعداد الضحايا، وبغرض التعريض بوسائل الإعلام، وهذا الأخير كان سلوكًا غريبًا، أي أن تطالب وزارة الداخلية وسائلَ الإعلام بـ"تحري الدقة" والاعتماد فقط على رواية المصادر الرسمية، في وقتٍ صمتت فيه المصادر الرسمية، ولم يكن من سبيل لإخبار المصريين عن الفاجعة التي فوجئوا بها، إلا الاجتهاد، الذي يُرجّح أنه أقرب للصحة مما جاء في بيان الداخلية.

لكن هذا التسلسل يكشف عن نقطة اشتباه مثيرة للاهتمام. تبدأ بسؤال: على إثر تأخر صدور أي معلومات عنها، هل كانت الداخلية المصرية تعلم أصلًا ما يحدث على أرض المعركة؟

بخلاف أن هذا التأخير في صدور أي معلومة عن وزارة الداخلية -فضلًا عن أي جهة حكومية أو مسؤول في الدولة- رغم أن الجهود الإعلامية، أو ما اعتبرته الداخلية عدم تحرٍّ للدقة، ظلت مستمرة على مدار ساعات طوال، ورغم اللفت والتنبيه مرارًا وتكرارًا إلى صمت الدولة المريب.. يعطي انطباعًا بأن وزارة الداخلية لم تكن تعلم على وجه الدقة طبيعة الحادث وتفاصيله لفترة طويلة. بخلاف ذلك ثمة عدة إشارات أخرى تعزز من هذا الاحتمال.

جنازة عسكرية لضابطي شرطة من ضحايا هجوم الواحات (مصطفى الشيمي/ الأناضول)
جنازة عسكرية لضابطي شرطة من ضحايا هجوم الواحات (مصطفى الشيمي/ الأناضول)

أولًا هناك تناقض بيّن فيما جاء في البيانين الأول والثاني للداخلية، ففي الأول أشارت الوزارة إلى قوة أمنية (مأمورية) واحدة لمداهمة البؤرة الإرهابية. في البيان الثاني المتأخر 18 ساعة عن الأول، تحدثت الوزارة عن قوتين، الأولى من محافظة الجيزة والثانية من محافظة المنوفية. إذ يُشار إلى وقوع منطقة الحادث في صحراء وعرة ممتدة بين المحافظتين.

ما يلفت الانتباه أكثر أنه في البيان الثاني لم تأت الداخلية على ذكر تفاصيل ما جرى للقوة الثانية. ذكرت أن قوة الجيزة وصلت أوّلًا، وأنها بدأت في الاشتباك مع العناصر المسلحة التي بادرت بإطلاق النيران، ثم ذكرت أعداد القتلى من هذه القوة. وانتهى البيان دون أن يخبرنا بشيء عن قوة الفيوم!

وبالإضافة إلى اختلاف أعداد ضحايا الشرطة في رواية الداخلية عنها في رواية المصادر الصحفية، هناك أيضًا ملامح أخرى قد تؤكد أن وزارة الداخلية لم تكن تعلم تمامًا طبيعة ما حدث، من بينها على سبيل المثال، اعتماد مصادر صحفية هامة كرويتزر و"بي بي سي" وفرانس برس، في جمعها للمعلومات عن الحادث، على مصادر أمنية. بالنسبة لرويترز على سبيل المثال، اعتمدت في جمع تفاصيل روايتها للحادث، وتحديدًا أعداد القتلى، على ثلاثة مصادر أمنية، قالت إن "52 على الأقل من ضباط ومجندي الشرطة لقوا مصرعهم في الاشتباكات".

وقد عزز من السياق العام الذي طرحته إجمالي التغطية الإعلامية، تعليقٌ للواء أحمد جاد منصور، مدير أكاديمية الشرطة السابق، أشار فيه لاحتمال وجود اختراق داخل الوزارة تسبب في سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا. وهو أمر  لفت إليه أيضًا مصطفى بكري، النائب البرلماني والكاتب الصحفي المقرب من أجهزة أمنية، وذلك في سلسلة تغريدات له على تويتر.

تُرجح العديد من الأمور بينها تسجيل مسرب لشهادة مجندين حضروا المعركة، أن الداخلية لم تكن على علم تمامًا بطبيعة هجوم الواحات

أمّا أكثر الإشارات عن ذلك إثارة للجدل، كان التسجيل الصوتي الذي بثه أحمد موسى الإعلامي الموالي للنظام، والذي سبق له أن بثّ تسجيلات قال إنها لنشطاء سياسيين مصريين على رأسهم محمد البرادعي، يتردد أنها منحةٌ من جهاز أمني سيادي كان قد تحفّظ عليها خلال اقتحامات أمن الدولة إبان ثورة 25 يناير. وقد وقع خلاف شهير بشأن هذه التسريبات بين أحمد موسى وعبدالرحيم علي، الذي سبق له نشر تسريبات مماثلة عبر برنامج "الصندوق الأسود"، حتى أن عبد الرحيم علي، اتهم موسى بسرقة هذه التسريبات.

اقرأ/ي أيضًا:  لماذا كل هذا الفشل المصري في مكافحة الإرهاب؟

صاحب الصوت في التسجيل قيل إنه طبيب يعمل في مستشفى العجوزة بمحافظة الجيزة، تقابل وعددًا من المجندين المصابين في الحادث وتم نقلهم إلى نفس المستشفى. يروي الطبيب تفاصيل ما أخبره به المجندون، والتي تكشف بوضوح أن القوة الأمنية التي داهمت العناصر المسلحة كانت مخترقة من قبل من يُفترض أنه مُخبر أمني، قبل أن يتضح أنه عميل لصالح المسلحين. وهذه رواية لم تُخبِر بها وزارة الداخلية، وقد سبق وأن أثارها العديد، من بينهم كما ذكرنا مصطفى بكري والمدير السابق لأكاديمية الشرطة، فضلًا عن مصادر أمنية لوسائل إعلامية ووكالات أنباء.

يكشف التسجيل أيضًا عن تشتت واضح في تعامل وزارة الداخلية مع الحادث، يُعزز بقوة احتمالية أن الوزارة لم تكن تعلم طبيعة المعركة الدائرة في الكيلو 135 بطريق الواحات.

وما يعزز صحة هذا التسجيل أيضًا توافقه مع سياق التسجيل الأول المسرب من موقع الحادث، وهو تعزيز متبادل من كلا التسجيلين لبعضهما.

تجاهلت وزارة الداخلية التسريب الأوّل، والذي شكك في صحته البعض، ونفى مصدر أمني صحته وفقًا لصحيفة الفجر المقربة من النظام. لكن التسجيل الثاني أثار حفيظة وزارة الداخلية بشكل كبير، خاصة وأن إذاعته عبر برنامج أحمد موسى قد يُضفي عليه بعض المصداقية من جهة احتمال كونه مُسلّمًا له من بعض الأجهزة الأمنية السيادية كما سبق وتكرر في تسريبات سابقة.

ويُؤكد التسريب على تفاصيل الرواية السائدة، كتأخر وصول مروحيات الشرطة، وتفاجؤ القوة الأمنية بكمين مُحكم من العناصر المسلحة، ووجود عميل لصالح العناصر المسلحة بين صفوف القوة الأمنية. ولعل ذلك كان سببًا في الهجمة الشرسة ضد أحمد موسى، التي وصلت لدرجة إصدار قرار من نقابة الإعلاميين بإيقافه عن العمل، وهو الذي كان أحد أبرز أصوات النظام في الإعلام المصري.

ويُذكر أيضًا أنّ التسريب متماشٍ مع الرواية الرسمية وغير الرسمية، بشأن أن الأغلبية العظمى من قتلى الشرطة من الضباط، وباقي المصابين من المجندين، إذ ذكر التسريب أن المسلحين استقصدوا قتل ضباط الشرطة بإصابتهم بالرصاص الحي مباشرة في مناطق مميتة، تحديدًا الرأس، في حين أصابوا المجندين إصابات تعجيزية فقط.

هذا ومن المحتمل أن استمرار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، على جدول أعماله، بزيارته لمنطقة العلمين لإحياء الذكرى الـ75 لموقعة العلمين في الحرب العالمية الثانية؛ يأتي في سياق تخبط الداخلية وعدم قدرتها على الوصول لمعلومات وافية بشأن الحادث. ما يُرجّح من احتمالية ذلك، أن وسائل إعلام وصحف مصرية معروفة بقربها من النظام، أكدت مساء الجمعة إلغاء السيسي لزيارته العلمين، ليتفاجأ المصريون بعدها بيوم، بإجرائه الزيارة وإلقائه كلمة غير مُسجّلة، عُرفت بعض تفاصيلها فقط ببيان رئاسي لاحقٍ عليها. ويُشار إلى أنّ كلمة السيسي لم تتطرق للحادث.

قوات من الشرطة المصرية وسيارات إسعاف بالقرب من منطقة الهجوم بعده بيوم (أحمد جميل/ الأناضول)
قوات من الشرطة المصرية وسيارات إسعاف بالقرب من منطقة الهجوم بعده بيوم (أحمد جميل/ الأناضول)

زيارة السيسي جاءت قبل صدور البيان الثاني لوزارة الداخلية. وقد يعني إجراء الزيارة في موعدها الطبيعي رغم النفي السابق، إطلاع وزارة الداخلية للسيسي على معلومات مغلوطة عن حجم الحادث، وعدد ضحاياه، وأنّه كانت ثمّة نية لإلغاء الزيارة وفقًا للأنباء المتداولة مساء الجمعة، وذلك اعتمادًا على تقارير وكالات الأنباء ووسائل الإعلام التي تُؤكد هول الموقف، لدرجة إعلان الأردن تنكيس العلم الرئيسي في الديوان الملكي حدادًا على ضحايا الحادث الإرهابي

يُذكر أنّ البيان الثاني للداخلية تحدث عن ضابط شرطة مفقود في موقع الحدث، قبل أن تُصرّح مصادر أمنية بالعثور على جثمانه، وهذا دليل آخر على تخبط وزارة الداخلية، ودليل آخر يُرجّح الرواية السائدة التي أكدها التسجيل الصوتي الثاني، من أنّ الداخلية لم تكن على قدر اللازم من الجهوزية لمواجهة العناصر المسلحة، ويعني هذا أنّها لم تكن لديها المعلومات الكافية لا عن طبيعة من ستواجههم ولا حتى عن طبيعة الموقع الجغرافي، ولا عن طبيعة المعركة بعد ذلك وما يحدث في الصحراء المتاخمة للكيلو 135 بطريق الواحات.

كل ذلك يُعيد طرح السؤال التقليدي عن وزارة الداخلية المصرية، الخاص بمدى قدرتها بكافة المستويات على أداء المهام المنوطة بها، وقد أثبت الحادث الأخير  ضعف كفاءة الجهاز الشرطي، والذي تسبب في مصرع ضباط ومجندين. وعلى ما يبدو فإنّ ضعف الكفاءة هذا هو جزء من بنية الوزارة المعنية بمكافحة الجريمة وحماية أمن المواطنين والبلاد.

التفاصيل الواردة عن هجوم الواحات، تؤكد أنّ وزارة الداخلية المصرية تفتقر بشكل جذري لما يُؤهلها لأداء مهامها الحقيقية 

يتجلى ذلك في العديد من التفاصيل الواردة عن هجوم الواحات، مثل ما يبدو أنه عدم معرفة لطبيعة المنطقة التي شهدت المعركة، يتضح ذلك بداية من الكمين المُجهّز من قبل العناصر المسلحة، وكذلك عدم جاهزية القوة المسلحة بأجهزة اتصال مناسبة، فضلًا عن الاختراق -أيّا كانت تفاصيله- الذي تعرضت له مداهمة القوة الأمنية من قبل مُخبر/عميل يكشف ضعف القدرة الاستخباراتية الأمنية لدى الأجهزة الشرطية.

ضعف الكفاءة القتالية، والتخبط في الحصول على المعلومة الوافية، وتأخر وصول مروحيات الشرطة، وغيرها من التفاصيل، تُؤكد أنّ وزارة الداخلية المصرية تفتقر بشكل جذري لما يُؤهلها لأداء مهامها الحقيقية، بدلًا عن الأخرى التي تُنتقد بسببها باستمرار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

توحش الشرطة المصرية (1).. محمية الميري

مصر.. "الحوادث الفردية" لأمناء الشرطة مستمرة