24-نوفمبر-2016

تجهيز لـ منى حاطوم/ فلسطين

  • (إلى أن تجدَ الحقيقة.. إلى أن تسلُك الطريق، سيظلّ هذا هو شرودك المعذّب ولهاثك المؤبّد)

الشعر

أردتَ تخليدَ أحلامك في الشعر.. ولكنّ الحقيقة أنّ الشعر كان ماكينة استنزاف لقلبك، وأنّ الصفحات التي دونت شعرك فيها على الشبكة ستتبدّل مع السنين وستنتهي صلاحيتها.. أما الأوراق فسيأكلها العثّ.. خَلّدَ شعرُك مأساة الإنسان فيك وألقاها هباء في ضمير العدم!

الماضي

كان الماضي هو اختيارات قلبك المرتبكة التي لا يمكنك مجرّد الالتفات إليها، وأنت في الحاضر أشبه بفأرٍ عالقٍ في فخّ أحكمَ الإمساك بعنقه فهو لا يستطيع زحزحة رأسه للوراء!

أنت محرومٌ حتى من النظر إلى الماضي ومراجعته، فالذاكرة ممسوحة ولا تحتفظ إلا ببعض الوجع، لأنّ الإنسان يخلّد المأساة وينسى الفرح.. أنت محرومٌ من كل شيء إلا من ممارسة الحسرة على الخيارات المثالية التي تدرك أنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض حظي بها، ولكن حتى هذه الحقيقة لا تعزّيك في فواتها!

الطفولة

تدرك الآن أنك لم تعرف نفسك طفلا، ما تعرفه أنّك كنت تظنّ نفسك دائما قد تجاوزت مرحلة الطفولة وينبغي لك أن تكبر بسلوكك وباهتماماتك.. كان هذا هو الطنين الدائم الذي حرمك حتى من الإحساس بنشوة الطفولة..
أنت الآن ثلاثيني بائس يُهرول نحو الكهولة، تنظر إلى "سلمى" وتراها كتلة من الطفولة.. لا تعرف الحزن إلا عند الألم للحظات، ولا تعرف غير اللعب والرقص والفرح والبهجة.

حين كانت سلمى في أقصى حالات الفرح وأنت تلاعبها، ركضتْ كالمجنونة نحو حافة السرير.. شعرتَ أنّ الطفولة التي نلتَها أخيرا ستهوي في هوّة سحيقة من المجهول، فامتدّت يدك مسرعة لتمسكها.. انخلع كتفك وتألّمت كثيرا، وسمعت المنادي يلقّنك الدرس: "لن تحصل على الطفولة من جديد حتى لو حفظتَ طفولة سلمى"!

الجدوى

ما الجدوى من كل ما تفعله؟
يسيلُ لعابك فتأكل سلطة التونا التي تحبّ، ثم تمتلئ معدتك وتتعبك..
تريد أن تلهو فتجلس على الشاطئ لتصطاد السمك.. سمكة كبيرة، سمكة صغيرة.. ما المهمّ في ذلك؟
تطلب العلم، تقرأ كتابًا، تكتب مقالًا، تنزف قصيدة.. ما الجدوى إذا كان مصير ذلك إلى العدم؟
أنت في هذه الحالة كطلسم منقوش على جدار معبد مهجور.. لا يعرف ذاته ولا يدرك معناه!

الحلم

لقد أودعتَ أحلامك -المشفّرة وغير المشفّرة- في قصائد نثرتَها في مطلع الشباب.. ثمّ عزيتَ نفسكَ وقلت: إنّ الحلم إنْ لم يتحقّق في الواقع فيكفيه أن يحلّق على ظهر قصيدة.. ثم عزّيتَ نفسك مرة أخرى وقلت: تتعاظمُ قيمة الحُلم ما دام معلّقًا.. قيمة الحُلم أنّه لا يتحقّق!

لقد أقررتَ بهذه الطريقة أنّ الحلم لم يكن موجودًا أصلًا، وأنّ وجوده مشروط بوجود اللغة.. إنّه حلم شريدٌ مغترب عن الذات.. ليس أكثر من جَرْس الحروف الضائعة في دفتر النسيان!

الطريق

لم تُجبْكَ الفلسفات المختلفة عن سؤال الطريق، بل كان الخوض فيها رفعًا لمنسوب استهلاك الطاقة في دماغك، وصولًا إلى حالة من اللامعنى والتوقف عند حدود الزمان والمكان.. لقد أدركتَ لاحقًا أنّ العناصر الطبيعية التي يتألّف منها دماغك تجعله محصورًا في حيّز المكان المادّي، وأنّه من العبث محاولة العثور على الطريق في المكان؛ لأنّ كل طريق في المكان لا يخرج عن الزمان، وأنت تبحث عن طريق يصل بك إلى خارج المكان والزمان!

حاولتَ امتطاء شعر أهل السلوك فلم تجد "العرفان" هناك إلا لفظًا بلا معنى.. كان الوجدُ الناشئ فقاعة تحملك إلى الأعلى قليلًا ثم لا تلبث أن يفقأها الوعي لتتركك عاريًا من كل شيء في برد السؤال القارس!
حينها أدركت، أنّه لا بدّ لك من العثور على الحقيقة كي تسلك الطريق الواصل.

الحقيقة

أين الحقيقة؟
بحثتَ كثيرًا ووصلتَ إلى قناعة بأنّك لن تلتقي بالحقيقة، إلا حين تلامس ذراتُ التراب الأولى وجهك في القبر.. أو ربّما عندما تتناثر أشلاؤك حين يقرّر أحد المجانين تفجير العالم!
تخيّل الآنَ ضوء الانفجار الوهّاج الذي سيغمر العالم.. وصدمة العالم عندما يصبح الجميع إنسانًا واحدًا يواجه مصيرًا واحدًا.. إنّها لحظة الانتقال إلى الحقيقة..
الحقيقة هي ما بعد اللحظة الأخيرة.. ما بعد الصدمة..
الحقيقة هي ما بعد الشعر.. ما بعد الحلم..
فإذا تخلّيتَ وجدت، وإذا تمسّكتَ نسيت..
نسيَ أبونا آدم فهبط إلى الأرض، ومنذُ تلك اللحظة المصيرية في عُمر الإنسانية ونحن غارقون في النسيان..
نسينا الحقيقة فضللنا الطريق، وكلّ وجودٍ صنعناه لم يكن إلا وهمًا في دائرة النسيان..
كان الشعرُ محاولة فاشلة لإطفاء ظمأ الروح، وكان الماضي سجلَّ الغفلة، والطفولةُ ذكرى الفطرة، والبحثُ عن الجدوى شرودًا عن الطريق، والحُلمُ السيناريو الذي لم يُعرض في شاشة الحياة..
رحلة واحدة إلى المقبرة في ليل ساكن كانت كفيلة بعرض الحقيقة..
كلّ ذرّة تراب هناك هي سجّل التاريخ وقصة النسيان.. وهي في الوقت ذاته مرآة الحقيقة!

 

اقرأ/ي أيضًا:

حلب.. خمرة الحرب

هناك قبر يشير إليكِ كثيرًا