19-يونيو-2019

الكاتب الألماتي هانس فالادا وروايته (ألترا صوت)

يستثمر الروائي الألمانيّ هانس فالادا (1893-1947) تفاصيل مرحلةٍ بائسة وشديدة الحساسية من حياته لإنجاز قصّته الطويلة "تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين" (دار الكرمة – ترجمة سمير جريس). تتعلّق هذه المرحلة بإدمانه على المورفين ومحاولاته التخلّص منه، والعناء الذي كابده متأرجحًا بين هاتين الحالتين، تمامًا كما يتأرجح عمله هذا بين السيرة والقصّة المُتخيّلة، إلى أن بدا أقرب إلى محاولةٍ جادّة منه لإزاحة الستارة عن جزءٍ مهمٍّ من سيرته الذاتية، وهذا إن لم يكن الأهمّ بينها أيضًا.

يستثمر الروائي الألمانيّ هانس فالادا تفاصيل مرحلةٍ بائسة وشديدة الحساسية من حياته لإنجاز قصّته الطويلة "تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين"

هانس فالادا اسم جديد على القارئ العربيّ، دون أن يكون جديدًا على المكتبة العربية. نقع على اسمه فنبدأ جولة بحثٍ عنه، لنكتشف أنّ له عملين مُترجمين إلى لغة الضاد؛ "نهاية السكّير"، و"ماذا بعد أيها البائس؟". نعرف أيضًا أنّ أعماله، وأكثرها شهرة، تتقاطع بشكلٍ كبير مع حياته الشخصية. ناهيك عن أنّه مُدمن مورفين وكوكايين وكحول سابق، الأمر الذي يكوّن لدينا بطبيعة الحال صورة مُسبقة ليس بالضرورة أن تكون صحيحة عن كتابه هذا، أي "تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين".

 اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسيفيتش.. حارسة الذاكرة

نتخيّل بناءً على تلك الصورة أنّنا سنكون إزاء شخصية خشنة وفظّة، على الأقلّ في لحظات ضعفها وعطشها الشديد لحقنة مورفين، أو لحظات خوفها وقلقها المستمرّ من نفاذ مخزونها منه، بالإضافة إلى نوبات الاكتئاب والهلوسة التي تبدأ ما إن ينتهي مفعوله، غير أن الشخصية الظاهرة في العمل، وهي شخصية فالادا نفسه، جاءت عكس التوقّعات، هادئة ومسالمة، ضعيفة وساذجة، تهرب بدلًا من المواجهة، وتحملُ سلوكًا اجتماعيًا مقبولًا، لا تشذّ عنه إلّا فيما ندر. وتسرد قصّتها – قصّة المؤلّف نفسه – بلغةٍ بسيطة وسهلة، غير فظة أو شوارعية، ما معناه أنّها لا تبدو متلائمة مع نمط العيش، وفداحة المُحيط. هكذا، يكون الدافع الأوّل عند فالادا لكتابة هذه المرحلة تحديدًا من حياته هو أن يسخر منها.

يقول هانس فالادا في مطلع قصّته/ سيرته: "سار كلّ شيء حسنًا طيلة أسابيع، إذ استطعت أن أخزّن كمية كبيرة من "البنزين" مثلما كنّا نُطلق على ذلك السم، وهكذا كنت متحرّرًا من أكبر همٍّ يُسيطر على مدمن المورفين، همّ الحصول على البضاعة. لكن كلما اقترب المخزون من نهايته، زاد استهلاكي له، كنت أريد أن أشعر مرّة أخرى بالشبع التام، ثمّ التوقّف نهائيًا عن ذلك". هكذا ستبدأ حكايته، فالادا، من اللحظة التي جُرِّد فيها من حريّته ما إن فرغ مخزونه من المورفين، ووجد نفسه مُلزمًا بأن يروي عطش جسده "قلق مؤلم سيطر على جسدي كلّه، كانت يداي ترتعشان، وعطش فظيع كان يعذبني، لم أشعر بالعطش في حلقي فحسب، بل في كلّ خلية من خلايا جسمي".

من هنا، سنتتبع رحلة مؤلّف "نهاية السكّير" الطويلة والشاقّة للحصول على المورفين، إذ لا يبدو الأمر بهذه السهولة، ولا بدّ من تأمين وصفات طبية أوّلًا ليبدو الأمر مقنعًا لأصحاب الصيدليات الذين لن يتردّدوا في الاتصال برقم العيادة المسجّل على الروشتة للتأكّد من صحّتها، هذا إن لم يطلبوا الشرطة للمدمن حالًا. هكذا، يتوجّب على الروائي الألمانيّ الذي وقع فريسة الإدمان، أن يسرق أكبر عددٍ من الوصفات كخطوة أوّليّة لتأمين المورفين. إلّا أنّه، وبفعل مظهره الذي يدلّ على أنّه مدمن، يفشل عند المحاولة الثانية، حين يكتشف الطبيب أمره "أترنّح في مكاني (...) وقد استولى عليّ يأس لا شبيه له. أرى الشوارع مزدحمة بالذين يُسرعون إلى أهدافهم إلى أناس آخرين، وأنا وحيد ومهجور وعلى وشك الانهيار التام. النحيب يختنق في حلقي، ويفتح فمي عنوة. فجأة تفيض الدموع على وجهي".

تتقاطع أعمال الروائي الألماني هانس فالادا بشكلٍ كبير مع حياته وتجاربه الشخصية

سوف يلجأ فالادا إلى المراوغة والمناورة للحصول على حقنةٍ من الطبيب، شرط أن يُرافقه بعد ذلك إلى المصحّة. تبدو الصفقة جيّدة بالنسبة إليه، لا سيما أنّها عُقدت في الوقت الذي يُبلغ فيه عطشه إلى المورفين ذروته، على أن يفكّر في أمر المصحّة بشكلٍ أفضل ما إن يتسرّب المورفين إلى جسده. ستختلط عليه، ما إن ينتهي الطبيب من حقنه، عبارات تشبه الهلوسات الذهنية، لتبدأ ذاكرته باستدعاء مشاهد وأفكار مختلطة ولا رابط بينها، تتداخل ببعضها البعض لتكوّن، معًا، مجموعة أفكارٍ متضاربة، وجمل مبهمة، بالإضافة إلى عباراتٍ غير مفهومة، ليفقد السيطرة على عقله كُليًّا، مُحافظًا على فكرةٍ واحدة تظلّ متوقّدةٍ فيه؛ الهرب.

اقرأ/ي أيضًا: الحكاية المثيرة للكاتبة الأمريكية التي تنبأت بفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية

بنجاحه في الهرب بعيدًا عن العيادة التي كادت توصله إلى المصحّة، قرّر فالادا استبدال المورفين بالبنزول والكوكايين، لتبدأ علاقته الجدّية بالإدمان. هذه المرّة سيتغيّر سلوكه الذي كان سليمًا بفعل حقنات البنزول المتتالية، والتي "لا تولّد أي تأثير غير أنّني أصبحت أكثر وحشية واندفاعًا وسرعة". ستدفعه هذه الوحشية لقتل خادمة فندق، وتولّد عنده غضبًا عارمًا يظنّ أنّه سوف يهدأ ما إن يحصل على المورفين مجدّدًا. هكذا سيهيم في الشوارع بحثًا عن حقنة، وفي إحدى الصيدليات، سوف يصرخ كالمجنون، أو كحيوان وفق تعبيره، إلى أن يحصل على المورفين الذي لن يكون سوى طعمٍ له، فما أن ينتهي من حقن نفسه حتّى يُسارع رجال الشرطة للإمساك به، وإيداعه ما كان يخشاه دائمًا؛ المصحّة. "ويبدأ العلاج من الإدمان. ثلاث سنوات لم أكن إنسانًا" يقول.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خيري الذهبي في رواية "صبوات ياسين".. تشظيات المثقف

أليف شافاق في مواجهة السلطة.. الأدب في مرمى النيران