12-يوليو-2020

لوحة لـ خوان ميرو/ إسبانيا

أفقت من النوم، من الأحلام العرجاء، كان صباحًا غريبًا يرسم تنبؤات مطموسة الألوان، صباحا سورياليًا مرسوما بشاربيّ سلفادور دالي المعقوفين كجناحيّ طائرة، الرياح تركل النوافذ والأبواب، تداهمنا في عزلتنا والقطط المنبوذة تشاركها في هذا العصيان بمواء أقرب إلى نواح الثكالى، حتّى الموج أراد أن يرسل كتاتيبه الصوتية الهادرة ليفجّر آذاننا، ليحاصرنا أكثر ويهدم جدار الصمت. لا أعرف لماذا تذكرت في ذلك المشهد المحنّط عصفوري رنّان، الكنالو الأصفر الذي اشتريته من حلّاق في الحومة العربي، كنت سخيًا معه في الأسابيع الأولى أشتري له الفواكه والخضر وكلّ شيء يقع بين يديّ، حتى أنّني صرت أبحث عن نصائح الخبراء الكبار الذين أغرقوني برطانة وحكايات لا تنتهي، لقد كان رنان سخيًا معي أيضًا، لم يسكت للحظة، ولطالما أضحكني بحركاته البارعة حينما يعرض جسمه الرشيق لأشعة الشمس وكأنّ الشمس تذّكره بشيء ما سعيد في طفولته، كان صوته يثير الكثير من الحركة في البيت، يحرّك الصباحات الممّلة والجدران المتراخية برنّات نشِطة مجبولة من قوة أمّه الطبيعة، كنت جمهوره الوحيد أنتظر وصلاته الغنائية وبعدما يكمل أجازيه بأكلات شهيّة يطرب لها كثيرًا.

لا أخفي أنّني كنت أرى في عينيه الصغيرتين رغبة شبيقةً متحمّسة وحزنًا دفينًا كلما لمح طائرًا يجوب السماء، فكرت كثيرًا بأن أطلق سراحه وأتركه يعيش الحياة التي يريدها، يغني، يحتفل، يرقص، يكتشف الجسد الأنثوي، يعيث في الأرض فسادًا إن أراد.

لم يمنعني من فعل ذلك الشيء سوى أنانيتي وحبّي الشديد لامتلاك الأشياء، أنا أحبّه، أعشق صوته الطروب لكنّني لا يمكنّني أن أطلق سراحه وهو يعرف أنّني سجّانه الوقح الأنانّي. في تلك الأسابيع أمضيت أوقاتًا رائعة معه، منتشيًا بصوته وفرادته وحركاته اللطيفة المضحكة، نسيت أصدقائي، نسيت البشر، بلغ بي الحبّ مبلغا شديدًا وغريبًا، رحت أحدّثه عن الخيانات والإنجازات الضئيلة، كانت تنحبس الكلمات في فمه، يغمغم برنّات قصيرة كأنها تنهدات بشرية تمامًا، ذلك ما جعلني ألتصق به أسكن قلبه الصغير، أحميه من الأخطار المحتملة وأعطيه حياة مرفهة، حياة شبيهة بحياة الأميرات العربيات اللواتي يعيشن البذخ لكنهنّ يفتقدن الحرية.

مضت الأيام ورنّان يملأ المنزل، يملأ أسراري، يبدّد الوحدة، مضت الأيام وشيئًا فشيئًا بدأ انشغالي به يتقصل، لم أعد أزره ولم أعد أحضر حفلاته الموسيقية، ولم يعد جناحه الملكي مليئًا بأصناف الطعام الشهيّة، حاول أن يشدّني بصوته كما يفعل في كلّ مرة لكنني لم أنتبه أدرت له ظهري وذهبت، توغلت أكثر في النسيان وأصبح الجناح زنزانة غارقة في الفضلات النتنة، أصبح صوته ارتعاشة باردة، تمزّقت حباله التي كانت تربطه بالبقاء.

وفي أحد الأيام، وضعته في حديقة المنزل الصغيرة، أحسّست بفرحه العارم عندما غمرته أشعة الشمس وقد راح يجرّب صوته من جديد، تركته هناك وذهبت لأخلد إلى النوم، في الصباح  فتحت عينيّ على جثة متجمّدة، على قلب معطوب، على ساقين متصلبتيّن كعوديّ ثقاب، كان مبللًا بالمطر بالخوف وصوت الرعد الذي لم أسمعه، عيناه مغمضتان لمستهما فلسعني برود مخيف يشبه برود أبي عندما حاولت تقبيله، حفرت حفرة صغيرة في الياسمينة الفتيّة ودفنته هناك ثمّ  سكبت على جسده الماء لا أعرف أكي أروي الياسمينة أم أرويه هو فيتحول إلى نبتة، بعد يومين ذهبت إليه نبشت قبره فوجدته مهترئًا مشوّهًا تنبعث منه رائحة عطنة، غطيّته وشتمت جنوني، كانت جنازة مهيبة وقاسية.

اليوم وبعد سنتين، عدت إلى الياسمينة العارية، أخذت ملعقة من المطبخ وظللت أحفر في التربة، حفرت طويلًا وصولًا إلى القاع الفخاريّ، لم أجد شيئًا حتّى العظام اختفت، بحثت مرات أخرى ممّزقًا عروق الياسمينة، العرق يتفصّد على جبهتي والذباب يمّصه، والديدان الحمراء تتلوى كعاهرة بينما أنا أعصرها بسطح الملعقة الضخم، لقد اختفى رنّان، أكلَتْه التربة وجعلت من موسيقاه المكتومة رائحة لها، خصّبت جوفها بقلبه وأمعائه وريشه الذهبي وذكرياته المريرة معي، إنّي أراه في البياض المثير المتهدل على المنزل في الصيف، في زقزقة أبناء جلدته حينما يلّتفون حول الأرض ويقذفون برازهم على رؤوس مخربيها، أراه في الزنزانة الفارغة وفي الصباحات الممطرة، لقد قتلك يا رنّان، تلك طينتنا ننسى الأشياء التي نحبّ ونقتلها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ليلة مصرع كوفيد التاسع عشر

حكاياتنا التي لن نرويها لأحد

دلالات: