19-أبريل-2020

كاريكاتير لـ آن ديرين/ إيطاليا

ستظلُّ ذاكرتنا تسترجع الأحداث يوميًّا، إلى أن يحينَ ذاك الوقت، فتنضب، وتنتهي معه حكاياتنا.

العين والأذن والأنف والفم، والعقل كمرسى نهائي لكلِّ ما نراه ونشمّه، نتذوقه ونسمعه، فيعالجه ويخزنه في مكانٍ ما، لتستدعيه ذاكرتنا في الوقت الذي – لا نتحكم به بطبيعة الحال – فنبدأ بعدها بسرد قصصنا التي حدثت عامَ كذا في اليوم كذا.

ماذا لو لم يكن هناك شيء جديد، يستدعي تخزينه؟

*

 

اليوم، لم نعد نفعل شيئًا يستدعي الاهتمام، أو الدهشة، فكل شيء مكرر، تكرر، وسيتكرر يومًا بعد يوم. لم تعد تقع أعيننا على موقفٍ جديد، ولا أنوفنا على رائحةٍ جديدةٍ في الشارع، ولا آذاننا على صوتٍ مميز، ولم يذق لساننا طبقًا شهيًّا مُختلفـًا. صِرنا ملازمين لشاشات الحاسبات والهواتف الذكية، نتواصل عن بُعد ونقرع كأسنا مع من نُحب بفتحةٍ دائريةٍ صغيرةٍ مثبتةٍ على قطعةٍ بلاستيكيةٍ.

بتنا أكثر اعتمادًا على ما نحمله من قصص، نسردها يوميًّا لننجو من هذا الحجر، لنجعل هذا اليوم مختلفًا عمّا سبقه من أيام

فقدنا حرارة لقاء أحدٍ ما، أو حُضنَ مسافرٍ عاد من غربةٍ طويلة، أوملامسةَ كفِّ صديقٍ/ةٍ نرتاح لوجوده، أو حديثًا صاخبًا في ليلةٍ باردةٍ،  فقدنا مُتعة الدخول إلى مقهى ما، وملاحظة النَظرات الفاحصة التي تقع علينا، فقدنا تسجيلَ رعشة جديدة في عضلة القلب، أو خفقةَ رمشٍ لمشهد مذهل أمامنا.

اقرأ/ي أيضًا: المساكين في مواجهة الطواعين

بتنا أكثر اعتمادًا على ما نحمله من قصص، نسردها يوميًّا لننجو من هذا الحجر، لنجعل هذا اليوم مختلفًا عمّا سبقه من أيام، وما يليه من أسابيع، سنخترع لغةً جديدة للتواصل علّنا نستمتع بوقتنا، سنقوم بعملنا على أكمل وجه، دونَ مُدير يقف لنا على الباب، سنحضرُ الاجتماعات ونحنُ نرتدي ملابس النوم، سنحاول قراءة كل الكتب التي اشتريناها منذ عُمرٍ لعلنا نجد الوقت لها، وكلَّ ليلة سنقول لأنفسنا، منذُ الغد، سأقومُ بفعل كذا وكذا، وحين نصحو، سَنعدُ قهوتنا كما اعتدنا، ونسترخي مُجددًا قائلين؛ ليسَ اليوم.

*

 

هل مللت الأغاني التي تسمعها؟ والكتاب الذي تقرأه؟ والروتين الذي تمارسه؟ والأكل الذي تتذوقه؟ والمنظر الذي تستلقي عيناك عليه؟

لستَ وحدك، تعال وقفْ قُربي.

حين كانت العُزلة خَيارًا، كنّا نفضلها عن تجمعٍ فيه ثلاثة أشخاص فأكثر، لكننا، اليوم، حين حُرمنا من أبسط حقٍ لبشر، صارت كريهة.

متى ستنضب حكاياتك؟

ستجفُّ ذاكرتنا، وسيجفُّ حماسنا لكل شيء جديد حين نعتاد هذه العُزلة، وهذا مُخيف. سنفقد شغف التواصل مع غيرنا، وستغيرنا هذه الحالة، كما ستُغير أولويات العالم بشكل ما.

رُبما نحنُ محظوظون لأننا نعيش الآن، فسنشهد التاريخ وهو يُسجل لحظةً فارقة، مِفصلًا بين ما قَبل وما بعد، وسنكون شهودًا على زمنٍ لم نعشه بعد، حين يذكروننا في وثائقيات متلفزة عن الوباء الذي اجتاح العالم الذي كان يعتقد أنه متقدمٌ ومتفوقٌ على أي زمنٍ قَبلَه، ثُم جاءَ هذا المُستجد، ليحجرنا، ويخيفنا، ويُعيدنا إلى مُربعنا الأول، إنسانٌ بدائي على استعداد أن يسحب سلاحه ليحصل على بضعِ لفائف من ورق المرحاض!

*

 

ستعبرُ البشرية هذا الوقت، وهذه الأزمة، كما عبرت غيرها، لكننا هنا، سنسأل بعد أن تنتهي؛ هل نحنُ كما نحن بعدها؟

هل لا زلنا نُحب ما نُحب؟ ونقدّر ما نُقدر؟ ونكره ما نكره؟ وتُغضبنا ذات الأشياء التي كانت قبلها؟ وتبكينا وتفرحنا وتجعلنا نُسجل مرّة أخرى أحداثًا جديدة في ذاكرتنا كما كُنا قبلها؟

لربما، ما سنتعلمه، بعد كلّ شيء نمر به الآن، هو أننا أضعف مما نتوقع، ومتطلبين أكثر مما نتخيل، والأهم، أننا لا نقوى على العيش اعتمادًا على ذاكرتنا وحسب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفيروس النيوليبرالي المُعولم

الأزمنة التي خلقها الوباء