قبل عدة أيام، خرجت سيدة فلسطينية غزية على إحدى القنوات الإخبارية لتنقل شهادتها حول حصار الاحتلال الأخير لمجمع الشفاء الطبي والمنطقة المحيطة به، وأوردت السيدة في شهادتها أنّ جنود الاحتلال قاموا باغتصاب عدة نساء وفتيات ممن تواجدنَ في تلكَ المنطقة، وأنّ صرخاتهنّ كانت تُسمَع على الملأ، وكان جنود الاحتلال يقتلون كلّ من يحاول الاقتراب منهنّ ومساعدتهنّ.
وعلى صعيد آخر، تداول النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي قصة سيدة حامل في مجمع الشفاء الطبي، قام جنود الاحتلال باغتصابها أمام زوجها وأبنائها، بناءً على شهادة زوجها حول ما حدث.
قوبِلت الروايتين السابقتين بضجة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشرت العديد من الآراء التي تُشكّك في حقيقة وقوع هذه الحوادث، وبعد الكثير من الحديث، خرج شقيق السيدة ليؤكّد بأنّ شهادتها بخصوص تلك الحوادث هي "شهادة غير دقيقة"، وفيها من المبالغة الكثير، وأنّ شقيقته أدلت بها في لحظات انفعال وأرادت من خلالها تحريك الرأي العام العربي والدولي للتدخّل الفوري والسريع.
إنّ المتابع لكيفية تفاعل الناس مع أنباء وأخبار اغتصاب النساء في مجمع الشفاء الطبي، يُلاحظ أنّ هناك فئة كبيرة منهم قد تفاعلت معها بالشجب والاستنكار، والتأكيد على استحالة وقوعها، فبحسب هؤلاء فإنّ "الأهون على حرائر غزة أن يُقتلنَ على السماح لأي أحد بالاعتداء عليهنّ أو يمسّ شرفهنّ".
الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي طالما سعى إلى تسييس أجساد النساء الفلسطينيات واستهداف جنسانيتهنّ كأدوات استعمارية
هناك فئة أخرى قد تفاعلت مع هذه الأخبار بطلب "فتوى شرعية بإباحة قتل النفس للنساء اللواتي يتعرضنَ للاغتصاب"، والكارثة في أشكال التفاعل هذه وغيرها، أنّها جميعها تأتي لتكشف عن عورات مجتمعية حقيقية في التعاطي مع قضية حساسة كالاغتصاب الذي يُعتبر واحدًا من أبرز أنماط العنف الجنسي الذي يُمارَس على النساء في وقت الحروب.
وبعيدًا عن شهادة السيدة الفلسطينية التي ربّما تكون قد أدلت بها -فِعلًا- تحت تأثير الانفعال، فإنّ جزم فئات كبيرة من المجتمع الفلسطيني باستحالة وقوع حوادث الاغتصاب في غزة يأتي بما يتنافى مع العديد من التقارير الأممية التي جاءت لتؤكّد تزايد مستويات العنف الجنسي الذي يُمارسه الاحتلال على النساء في غزة، وهو جزم يستبطن في داخله دعوى لكلّ النساء الضحايا بضرورة الخرس والتزام الصمت في مسألة حساسة مثل هذه المسألة، فكأنّ هذا الجزم يأتي ليقول للمرأة الذي تعرضّت لهذا الشكل القاسي من أشكال الاضطهاد والعنف الاستعماري: عليكِ الاستمرار بالتزام الصمت وعدم الحديث عن حقيقة ما تعرضّتِ له.
الجزم المجتمعي باستحالة وقوع مثل هذه الحوادث يُراد منه إخراس الضحايا ومنعهنّ من الحديث عما مررنَ به، لأنّه من المحرّمات التي قد تمسّ بشرف المجتمع ككلّ، وكأنّ جرائم الاحتلال جميعها هيَ من المباحات التي يتوجّب الحديث عنها وكشفها أمام الرأي العام المحلي والعالمي، باستثناء ما تعلّق منها بالمرأة و"شرفها".
إنّ هذا الجزم يأتي ليكشف عن عورة ثقافية حقيقية عربية وفلسطينية، متعلّقة بأجساد النساء، عبر التعامل معها كهاجس دائم، ومحاولة إسكات أي صوت يأتي ليكشف عما تتعرّض له هذه الأجساد من عنف استعماري أو عنف مجتمعي ذكوري.
إنّ الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي طالما سعى إلى تسييس أجساد النساء الفلسطينيات واستهداف جنسانيتهنّ كأدوات استعمارية، حيثُ تشير الباحثة مادلين الحلبي في ورقة بعنوان "نساء غزة خلال الإبادة: النساء والحرب والمقاومة" إلى أنّه في حرب الإبادة الدائرة حاليًا في غزة، فإنّ أجساد النساء الفلسطينيات هي إحدى الأدوات الفعالة التي تستخدمها قوات الاحتلال لتحقيق أهداف سياسية واستعمارية، وذلك عبر استهدافها وتحويلها إلى ساحة معركة جنسية، وعبر تعريضها للتشويه والاعتداءات الجنسية، والقصد من هذا هو خلق بيئة من الخوف والهمجية تؤثّر بشكل كبير على حياة النساء وعلى خصوصياتهنّ.
الفكرة التي يجب التأكيد عليها هنا، بأنّ وقوع حوادث اغتصاب لنساء فلسطينيات وارد في حالة حرب الإبادة الدائرة حاليًا على غزة، وبدلًا من العمل على إنكار أو إثبات حدوث حالات اغتصاب، الذي يجب هو إيقاظ وعي مجتمعي يعي هذه القضية، وأنّ السكوت عنها يجعل النساء ضحية مزدوجة، للاحتلال أولًا، وللعورات المجتمعية ثانيًا؛ تلكَ التي تُجبرهنّ على الصمت والتكتّم بدلًا من توفير بيئة داعمة لهنّ.
يُمكن القول إنّ المجتمع الذي يسكت على العنف الجنسي الاستعماري الذي يُمارَس في حقّ أجساد النساء، تحت مبرّرات الشرف والعرض، يُساهم في تبييض صفحة المُستعمِر وتبرئته من هذا العنف، كأنّ المستعمِر فيه من الأخلاقية ما يجعله يترفّع عن ارتكاب مثل هذا العنف لمجرّد معرفته بحساسية مسألته عند المجتمع الذي يَستَعمِره.