10-يوليو-2021

احتجاجات على مقتل الناشط نزار بنات (Getty)

تتواصل المشاحنات بين الناشطين العرب على وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيّما في سياق ما يرى البعض فيه أنه تبييض فصائل فلسطينية لصفحة إيران وحزب الله رغم جرائمهم الوحشيّة ضد السوريين، وتجدد ذلك الجدل بعد مقتل الناشط الفلسطيني نزار بنات وتصفيته على أيدي عناصر من السلطة الفلسطينية، والجدل الكبير بشأن شرعيّة التعاطف معه وتصديره كبطل ورمز، رغم مواقفه المشينة المؤيّدة لجرائم الأسد بحق الشعب السوريّ. في هذا السياق، بدا لي أن ثمّة نزعة "إباحويّة" فلسطينية، بمعنى أنّ كل خطأ ثوريّ فلسطيني "مباح"، ويمكن استيعابه ضمن آليات للتأويل والاحتواء، بالنظر إلى الواقع طويل المرارة الذي عاشه الفلسطينيون بسبب الاحتلال الإسرائيلي.

النضال من أجل فلسطين، هو نضال من أجل الكرامة الإنسانية، أي ضدّ كلّ ما يسلبها وينال منها، وهذا يشمل الاحتلال، سواء كان إسرائيليًا أو روسيًا أو أمريكيًا أو سواه، كما يشمل الاستبداد

فأشكال التهديد المتنوّعة، التي بدأت منذ النكبة بتهديد الإبادة والطرد، ثم انضاف إليها تهديد الضياع والذوبان في المنافي وبلاد اللجوء، اقتضت استدعاء آليات دفاع عديدة، حضرت بشكلها الأبرز في اللغة اليومية والخطابيّة، وأركانها المفرداتية الأساسية، من التحرير والذاكرة والحنين والحلم واللجوء والشتات والمقاومة وغيرها من المفردات اللصيقة بالمأساة الفلسطينية، ليس لدى الفلسطينيين وحسب، بل في المخيّلة العربيّة العامّة، والتي أضحت مكونات من ميثولوجيا أفرزتها الظروف الفلسطينية المريرة على مدى عقود طويلة، تحت ناظر العرب وسمعهم ومقروئهم. تلك اللغة جعلت الفلسطينيين في الوعي العربي العام أمّة وحدها، أو تكاد، بلغتها وهمومها وأحلامها ومشروعها، وشكّل آلية دفاعيّة "إباحويّة" تحت مظلّة "الخصوصية الفلسطينية"، تبيح لنفسها من الأخطاء والتجاوزات، ما لا تبيحه لغيرها، حتى لو انطبقت عليه ظروف مشابهة، من الاحتلال والقهر والإبادة.

اقرأ/ي أيضًا: اللوموند في رام الله: السلطة الفلسطينية تمارس القمع بشكل اعتيادي

لا يخفى كيف استغلت القيادات السياسية الفلسطينية تلك "الخصوصية" وتسلل الشعور بالقدرة على احتكارها والاستفادة منها، بالانفصال عن الهمّ العربي منذ بداية التسعينات، عبر أوسلو، وتحقيق نوع من التخفّف من البعد العروبيّ العامّ، وأحلام العرب جميعًا بالتحرّر، من ربقة الاحتلال في فلسطين، والاستبداد خارجها، حتى صار ذلك الانفصال والتمايز نذيرًا بانفضاض عربي منظور عن تلك الخصوصية الفلسطينية الفريدة. لكنّ سنين الاستبداد والهزائم العربية، منذ النكسة وحتى اليوم، أفرزت تورّمات بالخصوصيات المحليّة العربية في كافّة الأقطار، حيث الأوجه العديدة الأخرى للاحتلال وسجونه وجرائمه، وحيث الشعوب المحرومة أيضًا من أرضها، إن كان في الأرض لدى أي عربيّ معنى الحرية والكرامة.

في لحظة عربيّة سابقة على ثورات الربيع العربي، بدأ يتشكّل نوع من الوعي بخطورة هذا الانفصال عن العربي، وإدراك أوجه التشابه العديدة بين الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال باعتباره سجنًا، وبين الواقع العربي الذي يعدّ سجنًا، أكبر بكثير، إلى حدّ عدم القدرة على استيعابه. في أحد الحوارات التي أجريت معه، سئل محمود درويش عن أثر خروجه من الأرض المحتلّة وتنقله بين العواصم العربية المختلفة، وإن كان ذلك قد أثر على مقاربته للأمل بالحريّة عربيًا، وكانت إجابة درويش كاشفة جدًا وذات اتصال شديد بالواقع اليوم: "كنت أشعر [بالسجن] في كل مرّة كنت أقترب فيها من المدن العربية، وأقترب من فهم آخر للاحتلال، وأدرك أن الاحتلال ليس فقط الاحتلال القادم من الخارج. العلاقة بين السلطة العربية والمواطن العربي، العلاقة بين الخطاب السياسي الرسمي العربي وبين حقيقة الخطة العربية.. كل ذلك كان يشعرني بأنني أتحرك في سجن ضخم، الحيطان فيه غير مرئية، وغير معترف بها".

العربي كما الفلسطيني في سجنٍ هو الآخر، لكنه سجن يكاد يكون غير مرئيّ لشدّة سعته، كما أنّه للسبب ذاته سجن أقل "منفعة" على المستوى الرمزي للضحايا، مقارنة بضحايا السجن الفلسطيني. وقد التقط درويش هذه الفكرة مبكّرًا، رغم بديهيتها اليوم، حين أشار إلى أن هذا الإنسان العربي السجين والمقموع، محروم فوق ذلك من التعاطف ومن الاعتراف بشرعيّة قضيّته، أمام الطغيان الرمزي والشعوري للقضيّة الفلسطينية، حيث "الضحية [الفلسطينية] معترف بها بأنها ضحيّة، بينما ملايين أبناء الأمة العربية غير معترف بهم بأنهم ضحايا". وهذا ما منح الضحية الفلسطينية في نظر درويش، حق التعبير وحشد التعاطف والدعم، واستثمار الأنظمة العربية في هذه الصورة الحصريّة للضحيّة عربيًا، حتى بات للفلسطيني حق الخطأ، أيًا كان فاحشًا، وتجاهله والقفز عنه، وعلى حساب الضحايا الآخرين، ومطالبتهم بالسكوت عنها وقبولها منه، لأنهم رغم كونهم ضحايا إلا أنهم في نظر البعض لم يراكموا الرمزيّة الشرعيّة الكافية لقضيتهم، كما هي تقليديًا للفلسطيني.

لكن ما حدث في فلسطين مؤخرًا، في بعض أجزاء الضفّة الغربية حيث السلطة ونفوذها وقمعها وتصفيتها لمن يعارضها، أعاد إلى الواجهة تلك الحقيقة الأساسية عن أن الأنظمة العربية واحدة في كثرتها، لا يستفزها سوى مصالحها المتمثّلة في ترسيخ الواقع وتجذيره وقطع سبل تغييره، بأية وسيلة ساقطة ووحشية كانت.  أمّا النتيجة التي لا تفوت الملاحظة، هو تجدّد النزوع إلى عقد المقارنات بين الطغاة والغزاة، وبين المستبدّ والمحتلّ، لنجد أنفسنا من جديد أمام بديهية أخرى، وهي أن الاستبداد صنو الاحتلال، وشريكه الحقيقي والعضوي، المعنيّ بإسرائيل وحسب، لا بفلسطين ولا بالفلسطينيين وحقوقهم التاريخية ولا بمستقبلهم ومصيرهم، وهو ما ينطبق على السلطة الفلسطينية، بقدر ما ينطبق على الأنظمة العربية الأخرى.

هذا التكثيف للواقع العربي، الذي تجلّى في وحشيّة هذه السلطة في قمعها لمعارضيها وتصفيتهم، والاستفادة الجليّة من تراكم الخبرة العربية في الاستبداد والبلطجة، والكفاءة الإسرائيلية في السيطرة والإجرام والكذب، كان كفيلًا بتعديل البوصلة الأخلاقية الجماهيرية عند توزيع صكوك الشرعيّة والأولويّة على ألم الضحايا ومصابهم خارج السياق الفلسطيني، ورفض التساهل مع أخطاء الفلسطيني في حق الضحايا الآخرين، حين يسخّف أحلامهم ودماءهم، ويناصر الجلّاد المتسلّط عليهم، أو العكس بطبيعة الحال. ولعل هذا هو أحد أوضح دروس الربيع العربي في العقد الماضي، وهو أننا "لسنا يهودًا لنحتكر العذاب البشري، ولنغار من مآسي الآخرين" على حدّ تعبير محمود درويش نفسه، في حوار آخر معه أجراه معه صالح القلاب عام 1982 بعد خروج فصائل المقاومة الفلسطينية من لبنان.

لا يمكن بعد اليوم أن ننكر أن ثمة حجابًا قد رفع عن أعين الجماهير العربيّة فيما يتعلق بشمّاعة الاحتلال وادعاء المواجهة معه لتبرير القمع والاستبداد، أو للمفاضلة بين الضحايا في السجن العربي الكبير. ففي حين لا ينفكّ العربي عن الشكّ بشأن ادعاء وجود مواجهة "ممانعية" رسميّة مع "إسرائيل" (وما يتبع هذه الادعاءات من فرض استحقاقات دمويّة على البشر والحجر)، فإنه لا يمكن لعاقل أن يشكّ للحظة اليوم بأن لدى الأنظمة العربيّة الرسميّة مواجهة حقيقية واحدة وحسب، وهي المواجهة ضدّ الشعوب، وضدّ آمالها بالتحرّر من الاستبداد والاحتلال، والعيش بكرامة وفاعليّة تليق بإنسانيتها وتتسق مع إمكاناتها الحضاريّة في العالم.

ثم إن ما حدث يعيد التذكير من جديد بضرورة استعادة التلازم بين القيم الديمقراطية التي بشّر بها الربيع العربي، وبين قضيّة فلسطين، بوصفها نضالًا ضدّ الاستبداد وضد الاحتلال في آن معًا، وعدم شرعيّة تأجيل المواجهة مع الاستبداد، حتى لو كان فلسطينيًا، تحت دعوى المواجهة مع الاحتلال، واعتبار أن الأخيرة هي "جهاد أكبر" في مواجهة جهاد أصغر منه وأقل منه شرعيّة وجدوى. فالنضال من أجل فلسطين، هو نضال من أجل الكرامة الإنسانية، أي ضدّ كلّ ما يسلبها وينال منها، وهذا يشمل الاحتلال، سواء كان إسرائيليًا أو روسيًا أو أمريكيًا أو سواه، كما يشمل الاستبداد، سواءً كان مصريًا أو سوريًا أو فلسطينيًا.

في مقال له في كانون الأول/ديسمبر 2015، يشير الدكتور عزمي بشارة بوضوح إلى هذا التشابك والتكامل بين خطاب الديمقراطية وقضيّة فلسطين في زمن الربيع العربي، مؤكدًا على أنّه لم يعد بوسع الفلسطيني تجاهل ما تعيشه الشعوب العربية من ضروب المعاناة في ظل أنظمة الاستبداد والقمع العربي، لاسيما أن تلك الشعوب قد ثارت ووجدت صوتها بعد تغييبه وكتمه لعقود، ولاقت ما لاقته من جرائم وحشيّة تضاهي ما ارتكبته "إسرائيل" نفسها ضد الفلسطينيين منذ إنشاء كيانها الاستيطاني القائم على الإرهاب والتصفية العرقية. ومن هنا رأى بشارة أن مصداقية النضال الفلسطيني لصيقة اليوم بالموقف من هذا الإرهاب الرسمي العربي، وبالأطراف الإقليمية الطائفية التي تدعمه، كما يرى في المقابل أنّ من حق العربي الواقع تحت هذا الظلم أن يطلب التضامن والتحالف المبدئي معه، وأن ذلك هو المعنى الوحيد بنظر بشارة، لكون فلسطين هي البوصلة، أمّا التنكّر لعذابات العربيّ بدعوى أن فلسطين هي البوصلة، فليست إلا "رجع صدى صراخ الجلّاد في وجه الضحيّة".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الأخلاقي والسياسي في قضية اغتيال نزار بنات