05-مايو-2022
جسر الشغور

مدينة جسر الشغور عام 2018 (تصوير براء الجسري)

تتوسط مدينة جسر الشغور ثلاثة محافظات سورية هي: حلب، حماة، اللاذقية. وهي مدينة مطلّة على نهر العاصي. وفي يوم 10 آذار/مارس 1980 خرج أبناء المدينة من طلاب مدارس وعمّال وموظفين في مظاهرة كبيرة رفضًا للظلم الذي كان يمارسه الأسد الأب في ذلك الحين والذي أكمله الأسد الابن من بعده.

اقتحم المتظاهرون في ذلك اليوم أكثر من مكان تابع لحزب البعث وقاموا بالاستيلاء على أسلحة الشرطة. وقبل المساء كانت سماء المدينة تغص بالطائرات العمودية التي كان يملؤها جنود يقودهم علي حيدر، ومعه قائد المخابرات عدنان عاصي.

في عام 1980، قامت قوات النظام السوري بإعدام أكثر من مائة شخص في مدينة جسر الشغور، واعتقال المئات وحرق المنازل والتمثيل بالجثث والتعذيب بشتّى أشكاله وأنواعه

قامت قوات النظام بإحراق المحال التجارية وسرقة محلات الذهب والمحال الأخرى في المدينة، وقامت بإعدام أكثر من مائة شخص واعتقال المئات وحرق المنازل والتمثيل بالجثث والتعذيب بشتّى اشكاله وأنواعه.

هذا النصّ المكتوب هو شهادة على لسان والدة صديقتي، التي حدثتني عن والدها اسماعيل برو، الذي اقتادته قوات النظام من أمام المنزل في ذلك اليوم وقامت بإعدامه هو وثلاثة آخرين من أصدقائه. أتحدث عنه كما فعلت هي، محاولة أن أهديها هذا النص لأنها رددت كثيرًا أثناء سردها لأحداث ذلك اليوم "حرقة بقلبي إني ما بعرف أكتب".

عن اسماعيل برو أروي هذه الحكاية، وعن ابنته ناديا التي ظلّت من بعده رمادًا منثورًا كأنها بقاياه التي فجرها الرصاص في ذلك اليوم.

"لا شيء يطلع من مرايا البحر" هكذا تقول الحكاية. لكنك الآن هنا، صورةُ وجودك حاضرةٌ وكأنّك انبعثت من فوهة الوقت، وكأنكَ نفثت الروح في قلب المكان، تقاطيع وجهك وشامتك التي تطلُّ على خجل من طرف خدّك، والوحمة التي تشبّه شجرة صغيرة جدًا تقف على خاصرة جبلٍ شاهق.

نورك الآن ينبعثُ من دون أن تأبه لحدوث ذلك كعادتك. أراك الآن كأنك آتٍ من صباح ذلك اليوم، وذلك الزمان، ترمقني بنظرة متأسفة: "ما بعرف أتكلم، لكنّي بعرف أكتب". وأنا أفهمك من صمتك، منذ رمشت عيناك كما تُحرك فراشةٌ جناحيها المنكسرين، ومنذُ ابتلع اليأس مخارج الكلام من جوف صدرك. أدري أنّكَ أضعفُ من أن تستحمل كلّ ذاك الجمال العاصي، وأدري أن الحياة أحيانًا تستعصي على الفهم. وفوق ذلك أعرف أيضًا أنّك قلت مرّةً بلهجتك المختلطة "آخ يا ميمة، أذني ما فيها إلا هالصوت". صوت عجيج العاصي كنتَ تقصد ربما، وأنا أقول لك "آخ.. اذني ما فيها الا هالصوت". أيُّ صوت؟ صوتُ نجيخ العاصِي ليلةَ ناح واهتاجَ وانفجر.

وكنتَ تُمسّي على أمّك وتُصبّح عليها كأنّكَ تحجُّ وتسعى لأن تطوف حولها حتّى يصل الوجود لآخر محطةٍ في عمرِ الأَبد، وسمعك أسامة تقولُ مرّةً: "بسألك يا أمي لأني ما بدّي جواب، بسألك ليصير السؤال عندك، السؤال اللي بيسبح بذهنك بعمره ما بيغرق.. بعطيكي كل أسئلتي وأجوبتي الغرقانه عندي.. خذيها لبحرك اللي ملان قوارب". كأنّك كنت تعرف، رحلتَ أنت، وصارت هذه الأحجية ملاذ أمّك، صارَ غيابك السؤال الأوحد وصار البحر خدّها، تبرق عيناها فيهيج وجهها، كأنه الموت لا العاصفة.

حين أذكرك أتذكر آخر مرة رأيتك فيها. كُنتَ تقفُ مضيفًا للمكان شيئًا لم أكن أفهمه حينها، ابتسامتك التي كانت تعلو وجهك، كانت جميلة لكنها كزهرة البنفسج، تنبئ دائمًا بحزنٍ ما. كُنتَ تترك يداك في الهواء وتشيرُ كأنّك تقولُ للدنيا "مسموح دخولك الآن، انتهى دوري، سأذهب"، وذهبت. ظلّت يداك طوال سنوات معلقة في الهواء، أحاول أن أمسك بها، لكنها في كل مرة كانت تفلت.

حينَ قتلوكَ كنتَ تنطق اسم الله على طريقتك، وتقرأ الآيات من دون أن تتكلف عناء تضخيم اللكنة، هكذا أذكرك إذ يؤذن الصبح، وأسمعك من مكاني تنطق الحروف بسهولة وبساطة، كأنك تتحدث إلى صديقك المقرّب.

حينَ قتلوكَ كنتَ تنطق اسم الله على طريقتك، وتقرأ الآيات من دون أن تتكلف عناء تضخيم اللكنة، هكذا أذكرك إذ يؤذن الصبح

 

والساعة في كلِّ وقتِّ تذكر بتلك الساعة، ذهبت ولم تقل أنّك عائد، ظننت أنّك لم تقل ذلك لأنّك غير مضطر أصلًا، لأنك دائمًا عليك أن تعودَ إلينا، مهمّا كلّف الأمر.

الكتابة عنك مشقّة، وحينَ كانت تطلب معلمة اللغة العربية أن نكتب موضوعًا تعبيريًا أو أن نعرب الكلمات، كانت تتجلى من أمامي حقيقة واحدة، أن الماضي فعلٌ مسكونٌ بك، وأنّك يا للأسف لم توجد سوى في الماضي، وأنك "كُنتَ"، وهذا أكثر ما كان يجعل الآتي في نظري محتمل ولو قليلًا.

وكنتُ حينَ أحاول أن يكون أسمك حاضرًا أو مستقبلًا، كانت الأفعال تأبى، جربتُ كثيرًا لكن عبثًا، وبقيتَ وحدك أنتَ والفعل الماضي، وامتلأت الورقة بأفعال: ذهبَ، وأكلَ، ونام، ورحل. وبكيت حينَ كتبت كلمة "سنذهب" ثمَّ أدركت انها لن تصلح مع اسمك.

عائدة من صوب وجهك وتفاصيلك، أردت أن اكتب عنك، وعن النهر العاصي، وأردت أن أقول كلمات الكبار، مثل: مات، وليلة المذبحة، لكنني وجدتني أكتب عن الربيع وعن الجبال الشاهقة التي تزيّن خاصرتها عشبةٌ أو وردة، وليلة قتلوك قالت أمي: لا يمكن أن يكون هو.

نامت ليلتها بجانبك، فراشك ظلَّ فارغًا، لكنّها كانت مقتنعة أنّك هنا، وانّك حتمًا ستعود.

9 آذار/مارس 1980

ها هيَ السَكينةُ تتحولُ بفعلِ الزمن إلى السكِّين، أهيَ اللغةُ تَخون! أم أننا كُنّا منذ البدء نحيا على حافةِ سكّينٍ جارح، منذ البدء ونحنُ يغرسُ فينا السيف كما ينغرسُ فأسٌ بخاصرة سنديانة.

ثمّ جاءَت دعساتُ الليل، دَبَّ الليل، لا لم يهبط علينا بل سقط، سقطَ مثلما يسقطُ حجرٌ في بئر لا نهاية له، جاءَ الليل وتمادى. وكنّا خمسة، أبي أمي جدتي أخي أسامة وانا.

كُنّا نستمعُ إلى قدوم الليل مرعوبين، وقالَ أسامة اقفلوا الأبواب. وسألتُ ليلتها: خائفًا من ماذا يسألُنا أسامة أن نغلقَ الأبواب؟ فردّت جدتي كي لا يحرجني صمت الباقين: لا تخافوا.

كُنّا صامتين وحَذرين، المدينة تصعد الليلة إلى حَتفها، ومن يصعدُ إلى حَتفهِ يوصي أبناءهُ بشيء ما، أو يلقي خطابًا يتناسب طرديًا مع عدد الأنفاس المتبقيّة صدره. لكن جسر الشغور ظلّت صامتة، ذلك الصمت الذي يغلب كلّ الواقفين في الحَلَبة.

يومها لبستنا طمأنينة مزيّفة ورُحنا نحكي محاولين الانشغال لكن الحديث جرّنا في النهاية إلى الهزيمة التي يلتهبُ دَمعُها في الخارج. قُلنا إننا لو تركنا العاصي فإننا عائدون، مهمّا انزاحَ عن حِلم عودتنا الضوء، قُلنا ولو صارَ الحِلم مجرد عتمةٍ مشؤومة، فإننا عائدون. وسادَ الصمتُ لحظة ثم عادَ الضجيج، صُرنا نحكي بدون انقطاع، كأنما أخافنا الصمت مثلما تفعلُ العَتمة.

رُحنا نتبادلُ الدَمع، نَبكي واحدنا على الآخر، ومجتمعين كُنّا نبكي زماننا المهزوم. ومتى بدأت الحروب، هل منذ انبثقت أفروديت من زبد البَحر؟ أم منذ تاهَ شو وتفنوت في الظلام فبحث عنهم أتوم وحينَ وجدهم ذرَف دمعًا فُخلقنا نحن من دموعه!

وفجأة تَزححت من مكانك، أذكرُ مِنك صوت اصطكاك أسنانك الأخير، أذكرُ كيفَ فعلت ذلك مُعبّرًا عن صمتك، وحينَ اقتربَ منك الموت ليسحبك مِن أنياب ذلك اليوم، رأيتك تتشبث بشفتيك، رأيتُ أسنانك وهي تنغرسُ بشفتيك كمن يتمسّك بشيءٍ ما لا يُفلته، لكنّك أفلتت أو فعلنا نحن ذلك. وغبت في وحشة ذلك المكان، غبت بل ذبت في موتك كأنما أعجبك الأمر، كأنك كنت تقول لنا لا تعيدوني إلى هُنا مرّةً أخرى.

كأنَّه الجحيم تقولُ أمّي: مشيت على دمائهم، ولله صرت أكره اللون الأحمر، كنت أمشي وأدوس على الجثث، ذهبت لأتعرف على وجه أبيك، ولله لم أكن أتصوّر في حياتي كلها أن أرى مثل هذا المشهد

صارَ الليلُ أكثرَ ليلًا، صارَ الصمت يشفق علينا، كأنه أرادَ ليلتها أن يرتدي رداءَ الحناجر الممتلئة بالكلام، صارَ الصمت أقلَ صمتًا كي يؤنسَ وحشتنا. وغابَ بريقُ العاصي الذي كان ظلًّا لطفولتي، وفي قلبي أنّا مشيت. وغابَ أبي مثلما فجأة يتوقفُ عصفور عن نقر الزجاج، غابَ ابي ليقولَ للعاصي: يا عاصي، ابق وحدك ما استطعت، أمّا نحنُ فما استطعنا. وتاهَ بصري في أرجاء المكان الذي كنّا نجلس فيه، أَمن هُنا سينتهي كل شيء، لكن لم يبتدئ من هُنا سفر التكوين!

اختفى أبي، ابتلعه ذلك الزمانُ المُبهَم، ذابَ في زاوية الغرفة، كأنما كانت كلماته السرَّ لاختفاء الأثر من الوجود، وحينَ قُمت لكي ابحث عنه، بدأ يلمعُ ثم يختفي ثم يلمع حَتّى غابَ أبدًا وصارَ يهدر بإتجاه حتفه مِثلَ رَعد.

10 آذار/مارس 1980

أخذوك مع رفاقك واقتادوكم إلى الساحة وقتلوكم هناك، وحين أحكي لأمي أنّ الوقت كان ليلًا حينها، تقولُ: "آخر مرّةً كان معنا، كانت الدنيا الصبح"، وأقول: "وبس راح صارت الدنيا ليل!"، تردُّ أمي بعد أن تتنهد تنهيدة لا تخلو من علامات نواحٍ قريب: "وبس راح صارت الدنيا ليل".

كأنَّه الجحيم تقولُ أمّي: مشيت على دمائهم، ولله صرت أكره اللون الأحمر، كنت أمشي وأدوس على الجثث، ذهبت لأتعرف على وجه أبيك، ولله لم أكن أتصوّر في حياتي كلها أن أرى مثل هذا المشهد، ويومها مات أخوك ناصر ذو الستة أشهر في بطني، ولم أعد أرغب في الأكل، قال الناس: الله يعينها وفيقة ويحمل معها، جنّت على غياب زوجها، وأنا كنت قد جننت حقًا، وكيف، لا أدري كيف انتشلني الله من تلك الهوة السحيقة، لكنني اكملت، وعلى ضفاف الجرح بقينا صامتين، وكنّا نعرف أنه لو تفوّه أحدنا بحرف، فإن اللون الأحمر سينتقع تحت حرارة جثثنا.

في كلّ مرة نحكي فيها عن يوم المجزرة أمي وأنا، تقولُ أُمّي: جسر الشغور، الشهر الثالث من سنة الثمانين، وصاح الناس يومها "حرية" وكأنها كانت كلمة تثير هيجان الوحوش. وكانت الدنيا ليل. ثم تصحح: لا بل كان ذلك في صباح اليوم التاسع لا في ليله.

متكسّرة أجنحتي اقترب بوجهٍ يحملُ عينيك وأنف أُمّي السماوي من ذكرى غيابك الثاني والأربعين، ماذا أحكي لك عن العاصِ والخيبة تسبح فيه، ولونه يذكرّ بتلك المذبحة وبذلك اليوم! ويا أبي، يا إسماعيل، أناديك باسمك وانت في نومك، لعلَّ صوتي يصلُ إليك، وأقولُ كمّا يقول الدرويش محمود: "لا شيء يطلع من مرايا البحر"، لكنك ههنا، تقفُ بجسدك الأسمر غير خجل من بطنك الممتلئة، ترفعُ يديك لافتًا نظرَ الوجود لظلّ حضورك الخفيف، تقفزُ في النهر قفزةً تقولُ للدنيا: الوداع. وتغوص في عتمة العاصي ويغوصُ فيك حتّى تتباعد المجرات وينسحق الكون في لحظة.