31-أغسطس-2018

ميس الريم قرفول

كم تبدو الكتب التي بلا رسالة أو خطاب أو مهمة فارغة وبلا قيمة، وكم يبدو الرهان على الأبعاد الجمالية والشكلية رهانًا رخيصًا في بلدان تغرق كل يوم بالدم والموت. يبدو بأن أغلب الذين ينتجون أطنان الكلمات كل يوم غير قادرين على تحديد مهامهم قبل الكتابة. المهام الواضحة التي لا تحتاج سوى القليل من الكلمات والشجاعة، ففي العادة لا تأتي هذه المهام بدافع أيديولوجي أو عقائدي وإنما عبر الشعور بالمسؤولية الإنسانية، حيث يمكن لهذه المسؤولية فقط إعادة تشكيل الوعي وترميمه.

كم يبدو الرهان على الأبعاد الجمالية والشكلية رهانًا رخيصًا في بلدان تغرق كل يوم بالدم والموت

بسبب الضغط التاريخي على صورة تكوّن الشعر في الذهن الإنساني، لم تستطع المهام أن تؤدي دورها بشكل واضح في كتابتنا الشعرية المعاصرة، فالخيال والاستعارة والكناية والمجاز واللغة النوعية وغيرها من الألعاب... كلها ساهمت وعبر التراكم الزمني على صناعة صورة باردة وميتة عزلت الشعر عن لعب أي دور في صياغة أو حمل المهام الإنسانية .

اقرأ/ي أيضًا: آمال رقايق.. نصوص محرّرة من صوت الجماعة

لا يمكننا أن نقرأ كتاب "حين ساعدنا الحرب لتعبر" (دار التكوين، 2018) للشاعرة السورية ميس الريم قرفول حتى نمتلئ في فهم معنى دور الشعر الإنساني في ظل الأزمات والمجازر، فالكتاب لا يحمل مهمة أدبية فقط، بل يقترح طريقة للتخلص من الحرب، وهذه الطريقة هي الابتعاد أو الهجر. يرى الكتاب بأن الحرب هي عبارة عن نبتة، العناية الفائضة هي التي تجعلها تنمو وتكبر، في حين الاهمال والابتعاد هو الذي يجعلها تموت أو تعبر على الأقل.

انفتاح الكتاب على عدة حروب شخصية واجتماعية جعلتها الشاعرة بمستوى الحرب الكلية كموت الأب، العزلة المفروضة، الطفولة القاسية، العاطفة الضائعة وغيرها من الحروب الجزئية التي بددت الصورة الوهمية لحرب الدم كونها الحرب الوحيدة التي ينكسر فيها الإنسان. ما يؤكده الكتاب بأن الانكسار الحقيقي هو في حروب الأجزاء لأنها جاءت دفاعًا عن قيم ومبادئ متجذرة في شخوصنا، في حين أن الحرب العامة هي حرب التأريخ وأوهامه.

حين ساعدْنا الحرب لتعبر

من دواعي مقترح "الابتعاد" في التعامل مع الحرب الواقعة حتم على الشاعرة أن تكون علاقتها مع الحرب قائمة على "التخيل" أي خارج إطار التجربة المُدركة، مما أدى إلى تكوين حاله خاصة من التعبير الشعري خارج إطار الندب والشجب والوصف، عبر لغة خفيفة واضحة.


من الكتاب

فيسبوك

الفيسبوك يقول لي: صباح الخير ميس، ابقي بمأوى اليوم لأنها سوف تمطر. لو كنتُ في سوريا هل كان سيقول لي: صباح الخير يا ميس، ابقي في البيت اليوم، لقد خرقوا الهدنة، اخرجي، لا رصاص عابرٌ، ابقي، القذائف قتلت البارحة طفلين وعشرين شابًا وفتاة سمراء جميلة، اخرجي طيري فوق الحواجز، ابقي، ستضربك سيارة وينتهي كل شيء بعيدًا عن الحرب... هل سيقول لي كلّ شيء؟ هل سيقول لي يومًا ما هذا المأوى الذي يتحدث عنه؟ كم هو جميل وعبثي أن يكون الخطرُ مطراً، والمأوى سقفاً ليس لك.

 

إله

لا إله للسوري إلاّ دمعتَه رأى وجهها في صلاته وقيامه

في نومه وتخييمه

في سفره عبر الأرض و في النبات

حتى صار الحشيشُ قلبَه البارد

وصار دخانُه ولائمَ بيتهِ المحترق

لا إله إلا صرختَه التي لونت الأفق

وتحطَّمتْ

مثل عشب

لم يلمسه نيسان.

 

خبز فرنسي

كنتُ آكل مع جاري الفرنسي خبزًا من أرضه

وكانت السماء تدور مثل ساعة دالي

كنت أركض في الحقول كأني أصنع قميصًا

أغطّي به عريي

وخجلي الذي يضيئُه النهار

الحرب تورِّدُ الخدود

تصفعها مثل فيضانات الأنهار

تقسّمها بين أشباح وصناديق كوابيس

تُبقي بعض الوجوه الغريبة حروفًا عالقة في

مشابك غائرة

رؤوسها إلى الأعلى

تحاول تهجئة الأبجدية عبر مسالك جديدة

كأنَّ السماء تمطر من التراب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حديث عادي عن مجموعات أولى

ماناش باتاشارجي: على القصيدة أن تنهي غفلتنا