08-أغسطس-2017

سليم بركات، سركون بولص، محمود درويش، وديع سعادة (ألترا صوت)

"عصافير بلا أجنحة" عنوان تقرأه في قائمة المجموعات الشعرية التي أنجزها محمود درويش، لكنك لن تصل إليه فالشاعر حذفه كما يحذف ذكرى سيئة، ثم بات يعتبر مجموعته "أوراق الزيتون" فاتحة وميلادًا.

سمّى محمود درويش أحد دواوينه "محاولة رقم 7"، بما يشير إلى تشكّكه في أنه كتاب جدير بالانتماء إلى متنه

يحقّ للشاعر أن يختار بدايته. يحق له اعتبار عمل ما مجرد غلطة، أو أقلّ من أن ينتمي إلى متنه المشتهى.

اقرأ/ي أيضًا: محمد خضيّر.. ما فات وما لم يفت من السيرة

لاحقًا سوف يسمي درويش أحد دواوينه "محاولة رقم 7"، متشكّكًا في أنه كتاب جدير بالانتماء إلى متنه. رغم أن هذا الكتاب مثّل علامة تغيير على طريق تلك التجربة. تسمية الكتاب بالمحاولة تعود، أغلب الظن، إلى قلق شخصي من بداية لا تليق بالمأمول، ولهذا سيكون العنوان نوعًا من التبرير للذات والآخرين، بالدرجة ذاتها. ومن جانب آخر، شعرٌ يدفعه الشكّ إلى الواجهة يعني، من بين ما يعنيه، أن شاعره لا يزال يكتب مجموعة أولى، حتى لو كانت السابعة في إصداراته، أو حتى العشرين.

لكن درويش في عقوده الأخيرة سيقول إنه لو خيّر في أمر شعره لأبقى منه 5 أو 6 كتب، وحذف الباقي. وسيقول جملة ذهبية في إحدى حواراته حاسمًا ذلك القلق: "ولدتُ على دفعات"، مفسرًا أن الولادة الشعرية لا تحدث عبر كتاب واحد.

تجد الإشارة هنا إلى أن درويش نفسه هو أفضل قارئ لشعره، وأفضل ناقد كذلك، فكثير من الأشياء التي يردّدها نقاده الكثيرون صدرت عنه أساسًا.

لنعدْ إلى الولادة الشعرية. ألا تبدو فكرة درويش العبقرية تخليصًا لكلّ الشعراء من الحيرة؟ ألا تشير إلى قوةِ شكيمةٍ في التجريب ثم التجريب، حتى يصل الشاعر إلى الولادة التي يشتهي ويتمنى؟ ألا يتضاعف مجازيًا ليصبح أمًا وأبًا، وقابلةً، في آن؟

حين كتب سليم بركات مجموعته الأولى "كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضًا" جاء مكتملًا، لا نقصان على الشاعر ترميمه في أعمال لاحقة. هي قصيدةٌ انفجرت بملامح واضحة، بل لعلها بدت البؤرة الأولى التي سيعاود الرجوع إليها لكي ينتحلها مرات تلو المرات، بما يتصل بتلك النظرية التي تقول إن الكاتب إنما يقدم عملًا واحدًا في النهاية، وكل ما هو لاحق عليه ليس سوى إعادة كتابة له. يشبه ذلك ما حدث مع وولت ويتمان في "أوراق العشب" الذي لم يكتب سواه، لكنه ظل يشتغل عليها مع كل طبعة جديدة إضافات وحذفًا، إلى درجة أن الأمر لم يعد يبدو بالنسبة للقارئ معاينةً للولادة وحسب، بل تعداه إلى ما هو أبعد، ليصبح معاينةَ الحمل والرحم. ذلك هو الشعر المشيمي، حكايته لا تكتفي بأن تقول ما حدث للجنين خلال إقامته في رحمه، بل في أخذ للقارئ إلى الاشتراك في سكنى الرحم.

كانت مجموعة سركون بولص الأولى "الوصول إلى مدينة أين" أشبه بتميمة شخصية لشاعر سيقضي حياته في الترحال

مع "كلُّ داخلٍ سيهتف لأجلي..." انقلبت فكرة إدوارد سعيد عن "الأسلوب المتأخر"، إذ رأى أن الكتابة في نهايات العمر، مع انهيار الجسد، تذهب إلى أساليب وطرق جديدة غير التي زاولها الكاتب في سنوات تجربته. نص سليم بركات بهذا المعنى نوع من "الأسلوب المبكّر"، سير معاكس كليًا لأطروحة سعيد.

اقرأ/ي أيضًا: محمود درويش اكتشافنا الدائم

من بين قصص الكتب الشعرية الأولى، تأخذ قصة "ليس للمساء إخوة" لوديع سعادة مكانةً خاصة، حيث جاءت ولادة الكتاب ككتاب نوعًا من جنون الكتابة، إذ قام الشاعر بنسخ الكتاب بخط يده، وسار في شارع الحمراء البيروتي موزعًا إياه على المارة "أوائل 1973"، كما تقول عبارة الاستهلال. منذ تلك المجموعة ووديع سعادة شاعر الكينونة الذي يجد الحياة في الظلال والهوامش والزائل، ويحوّل الأفكار الفلسفية إلى شؤون شخصية. كتب في مجموعته الأولى: "إذًا/ رأيتُ نفسي/ كمعطفٍ مثقلٍ بأوحال النهار/ أقفُ أمام صبّاغ المساء/ المقفل". وجاءت المجموعات التالية لتعمّق تلك الكينونة وتوسّع بيكار أسئلتها.

كانت مجموعة سركون بولص الأولى "الوصول إلى مدينة أين" أشبه بتميمة شخصية لشاعر سيقضي حياته في الترحال. وستظل "أين" اسم الاستفهام الذي يدل على الظرفية المكانية في النحو لغزًا دلاليًا لا نجد معناه إلا في العبور واقتحام المجهول. يقول سركون في حوار معه: "إذا فتحت الكتاب وقرأت الكلمة الأولى، وهي وصلت، وقرأت الكلمة الأخيرة في الكتاب، ذهبتُ، تجد في الكتاب أن فكرة الوصول إلى مدينة أين محتجزة بين هاتين الكلمتين. ففي البداية تصل ولكنك في النهاية تذهب". بين "وصلتُ" و"ذهبتُ" يبدو المكان وهمًا، وهذا بالضبط ما حدث للشاعر.

ربما لم تكن المجموعات الأولى أفضل ما كتبه الشعراء الذين ذهبنا إليهم، لكنها في كثير من الأحيان تلقي أضواء خفيةً وخفيفةً على الأعمال اللاحقة، رغم كل ما قد يلقونه عليها من تهم باتت الكتب الأولى معتادةً عليها، من عدم نضج، وترديد أصوات الآخرين، وافتقارها إلى شخصية كاملة الملامح.. مع ذلك كلّه، المجموعة الأولى ذاكرة التجربة الشعرية، التي يظّل صاحبها يستحضرها، بشكل لا واع، لا سيما وأن الكتابة في جزء كبير منها تتشابه مع العيادة النفسية. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

إياد شاهين الذي صفعنا ومات

برج بابل "اللّغات" العربية