09-مايو-2018

ماناش باتاشارجي

ماناش باتاشارجي شاعر وكاتب ومترجم وباحث في العلوم السياسيّة من دلهي. أصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 2013 بعنوان "قبر غالب" (Ghalib’s Tomb). هذه ترجمة حوار أجري معه في (The London Magazine) وفيه حديث شخصي عن حياة ماناش وقصته مع الشعر، وعن ديوانه الأول وما فيه من قصائد.


  • متى بدأت كتابة الشعر؟

كتبت أول قصيدة، وهي قصيدة غزل سخيفة، وأنا في الصف الثامن. بعدها لم أكتب شيئًا حتى سنة تخرجي من الثانوية. بعدها كتبت الكثير من الشعر، ومعظمه لم يبتعد عن كونه بوحًا عن العشق وتقلبات الهوى. تلك القصائد، حتى في زخمها في تلك المرحلة الفتية الباكرة، هي دليل على أن الحب لا ينفك يسعى، بيأس، لإيجاد أشكال فريدة من الوحدة من أجل الشروع في رحلة من الخروج منها ومقاومتها. ما يلفتني اليوم هو تلك الحماسة الغامضة والرضا العجيب في تلك الفترة من الشباب لتجسيد المشاعر شعرًا. بعد ثلاث سنوات من تلك المرحلة، بدأت أكتب، وكان ذلك في المرحلة الجامعية، القصائدَ التي ستظل في وجداني حتى اليوم، حيث شعرت بالنضج البطيء مع مواصلة قراءاتي المكثفة.

ماناش باتاشارجي:  كانت دلهي وحشًا مشوّه الذاكرة، إذ تخلت عن مكانتها كبوتقة تستوعب غيرها من المدن والناس

  • هل لك أن تحدثنا عن تجربة العيش في دلهي؟

لقد قضيت السنوات الأولى في دلهي في حرم الجامعة. كانت جامعة جواهر لال نيهرو هي ملاذي بعد قراري ترك عالم الهندسة القاتل للخيال والانتقال لدراسة الإنسانيات. لقد أسعدني اللقاء بطلبة كانوا قد تخففوا كثيرًا من قيود العائلة والدين والدولة. لقد وقفنا دعمًا لفلسطين وكشمير ومانيبور، وكان الطلبة يوزعون منشورات مناهضة لأمريكا والرأسمالية، وكنا نكتب على الجدران عبارات لـ نيرودا وموكتيبود وكيشوار ناهيد ونامديو داسال. في خضم ذلك كله كانت مكتبة الجامعة الكبيرة تمنحني ما أحتاجه من غذاء لذهني. لقد تعلقت بأعمال ماندلستام أكثر من ماياكوفسكي، وأحببت كويستلر أكثر من سارتر. وأخذت قرارًا بأن تكون كتابتي بكل ما فيها من خيبة وعثرات عنوانًا لقناعاتي. لقد كان أولئك الذين يكتبون عن تناقضات المجتمع يخفون ما يعيشونه أنفسهم من تناقضات. لقد كانت السياسة التقدمية أيضًا سياسة أقنعة. لم أفقد إيماني في قاعات الدراسة، ولكني وجدت آخر، في الشراب. لقد كانت منادمة الأصدقاء في حضرة الشراب أفضل ما يمكن فعله لطرد الأرواح الشريرة، وتمتين عرى الصداقة مع الآخرين، والغياب مع الموسيقى، ومشاركة الشعر. لقد كان حرم الجامعة أيضًا ساحة أساسية لممارسة الحب تحت القمر في البرية. أما اليوم فقد تغيرت الأحوال كثيرًا في الجامعة، فقد تحولت إلى سجن كبير: إجراءات أمنية مشددة تلاشت معها الحرية.

لقد كانت دلهي وحشًا مشوّه الذاكرة، إذ تخلت عن مكانتها كبوتقة تستوعب غيرها من المدن والناس. حتى اللغة في دلهي تغيرت علينا بعد أن تلاشى التواصل مع لاهور. أما السياسة هناك فمسرح من السخف. ولم تعد تجد اللطف والطعام الشهيّ إلا بين مجاوري أضرحة القديسين والشعراء.

 اقرأ/ي أيضًا: كارمن ماريا ماتشادو: يزعجني كتّاب يتهيبون الحديث عن اللذة

  • يقال إن غالب هو آخر أعظم شعراء المغول ويعد أحد أشهر الشعراء بالأردية وأكثرهم تأثيرًا. ما أكثر ما يعجبك في شعره؟

 لقد كان غالب زنديقًا ذا جرأة على الاشتباك مع الإيمان. لقد كانت أكثر أشعاره قسوة هي تلك التي تنطوي على شيء من التهكم الذاتي. لقد كان الخمر وصفته السحرية التي كانت تمنحه القدرة على تحليل الظروف البئيسة للرغبة الإنسانية. ويمكن أن أقول إن غالب قد كان الركن الأدبي الذي قامت عليه اللغة الأردية، وأضيف على ذلك أنه كان شاعرها الأكثر عمقًا. من المؤسف أنه لم يتسنّ للشاعر طاغور قراءة أشعار غالب وفاته التأثر به.

  • ما الذي سيجعل الناس تهتم بقراءة مجموعتك الشعرية؟ وما الذي سيظل معهم بعد قراءة ما فيها من قصائد؟

القصائد في هذه المجموعة تدور حول استكشافي عالمًا من الشعراء، والمغنين، والخرافة، والتاريخ، وحياة المدينة، والنساء، وستجد خيطًا من الذات ينسل من بين كل هذه المواضيع. هذه الاشتباكات تربط التجارب البشرية عبر الزمن والمكان، كما يعبر عنه أوكتافيو باث "زمن من وراء الزمن". في هذه القصائد خريطة، خريطة من الحب، للطيور الحرة، لا للجيوش الكاسدة. هي أيضًا خارطة للقراءة، وكل قراءة هي علامة على الرحيل.

كل من يتخذون من الأسفار إقامة دائمة، ويؤمنون بخرائط لا حدود فيها، قد يجدون عبر قصائدي رحّالة من طينتهم. ويسعدني لو تسنّى لي أن أعرف ما الذي سيأخذه كل قارئ يمر على قصائدي.

  • هل تنصح القارئ بالاطلاع على شيء قبل الشروع بقراءة هذه المجموعة؟

نعم، مع الأسف! فبعض القصائد قد تتطلب قراءة أمور محددة قبلها. فقصيدة (Diary) هي معارضة على قصيدة للشاعر باسوليني تحمل العنوان ذاته. أما قصيدة (Broken Vase) فهي قصيدة سوريالية تأثرت فيها بكتاب أندريه بريتون (Mad Love). وذكرت أيضًا سيبالد، والذي ظهر أيضًا في قصيدتي (Reading Sebald). أحد من كتب عن المجموعة وجد أن قراءته لقصيدة (Ustad Nusrat) قد أثرت تجربة السماع لقوالات نصرت فاتح علي. وأنصح بالأمر ذاته قبل قراءة قصيدتي عن المغني الكشميري العظيم، سازناواز.

  • تبدو مسكونًا بأرواح الشعراء السابقين، فما أثرهم في تشكيل تجربتك الشعرية؟

صدف في هذه المجموعة الشعرية أن يكون جميع الشعراء الذين أذكرهم موتى. أتمنى لو كان بعضهم بيننا، خاصة ممن لم يمض زمن طويل على وفاتهم. أليس مذهلًا أن يكون أوكتافيو باث، ابن المكسيك، هو الذي فتح عيني على دلهي الحديثة؟ لقد تعلمت الكثير بلا شك من كل شاعر ورد ذكره في مجموعتي الشعرية. إن إدارة أشكال التأثر هذه هو فن ومراوغة في آن معًا. لقد قال إليوت يومًا إن الشعراء الجيدين لا يقلدون لأنهم يعرفون كيف يسرقون. لقد كان للشاعر آغا شاهد علي مثلًا أسلوب أنيق في الإفصاح عن منابع تأثره بغيره من الشعراء.

ماناش باتاشارجي: قال إليوت يومًا إن الشعراء الجيدين لا يقلدون لأنهم يعرفون كيف يسرقون

  • بمن يحلو لك أن تقارن نفسك من الشعراء؟

لا أحد. ربما لم أنجح بعد كشاعر وفق تصوّر ريلكه عن الشاعر الجيد. لذلك لا دليل أهتدي به سوى تلك الرغبة في العثور على صوتي أنا. وربما يومًا ما سيجد القراء أن شعري يستدعي أصوات شعراء آخرين.

 اقرأ/ي أيضًا: أليس غاثري: الأدب العربي بالإنجليزية محكوم بعقلية الرجل الأبيض

  • ما القصيدة الأقرب إليك في هذه المجموعة؟

في قلبي مكان خاص لقصيدة صغيرة بعنوان (Stillness). كتبتها في ليال صيفية مسني فيها القيظ والوحدة في الجامعة. كان صديقي، بيدان لايشران، والذي كان يخبرني بأن القمر يعرف كل أسراره، يقرأها ونحن نسير الشوارع آخر الليل والقمر الثمل يراقبنا. هذه القصيدة هي أيضًا طريقة للنظر إلى القمر بأعين تنضح بالاغتراب. تذكرني هذه القصيدة بما قاله بورخيس "أضع بين يديك أسى رجل قد نظر/ طويلًا ثم نظر/ إلى القمر الوحيد". ثمة سكون في هذه القصيدة يحيط بالسكون. لا شيء يحدث في هذه القصيدة استدعاءً لحدوث أمر آخر. ولم أدرك إلا مؤخرًا أن شيئًا من عبثية بيكيت يميز هذه القصيدة.

  • العديد من قصائدك تشير إلى شخصية ما وتتشابك معها. هل تشعر أن الشعر هي الطريقة الأفضل للتعبير عما تشعر به تجاههم؟

لمَ لا! الشعر يكتب في عزلة مادية، لكن وحدة الذهن مسكونة دومًا بحضور الآخرين. الشعر ممارسة اجتماعية. كثيرًا ما تولد القصائد من حوارات وإحالات وروابط تبنيها مع الآخرين. ويلزمك أحيانًا أن تكون أسماؤهم جزءًا من ذاكرة القصيدة. فالقصائد ذكريات أيضًا، وحين تكرّسها لاسم معيّن فإنها تصبح أقل وحدة.

  • ما الذي يجعل القصيدة جيدة في رأيك؟

القصيدة الجيدة بحق هي تلك التي تحدث فيك صدمة مثالية تفتّح أعين الزمان المغلقة. إن هذا العالم قادر على تخدير حواسنا، وعلى القصيدة أن تنهي غفلتنا وتفتح لنا نافذة نرى من خلالها الوجه الآخر للحياة، وجرحها الغائر، بأعين مفتّحة.

 

 اقرأ/ي أيضًا:

كارلوس ليسكانو: أن تكتب على أنقاض آخَرِكْ!

فواز حدّاد: أصبحت الرواية حياتي كلها