09-فبراير-2022

كاريكاتير لـ عماد السنوني/ المغرب

مات ريان، لكن حبنا المفاجئ له لم يمت. رغبتنا الحارة في أن يتلقى حبنا وهو حي ونابض لم تمت أيضًا. مع أن موضوعنا قد مات. موته لم يغير في مشاعرنا تجاهه الكثير. نحن عرفناه وهو على حافته، خفنا عليه، ورغبنا بإنقاذه، وفعلنا ما بوسعنا كي لا ننسى أنه في هذه المحنة. إنما ماذا فعلنا له حقًا؟

معظم الذين تفاعلوا مع محنة ريان التي أعقبها موته، كانوا يتساءلون بحرقة: ما الذي يجعلنا متحمسين إلى هذا الحد لإنقاذ الطفل؟

كلنا أبدينا استعدادنا للمشاركة في عمليات الإنقاذ، كما لو أن القابع في خطر هو معنى حياتنا، ومن دون إنقاذه لن نعود كما كنا من قبل. لكن بحار كثيرة ومفازات واسعة تفصلنا عن المساهمة في عمليات الإنقاذ. هكذا صنعنا أبطالنا على وجه السرعة، وتابعنا حياتنا مثلما يفترض بنا أن نفعل، بعد أن أضفنا إليها جرعة كبيرة من القلق والخوف، واللعنات التي نصبها على العالم الذي نحن منه. مات ريان، وكنا نريد أن ينقذه أحدهم. أن نشق جبلًا من أجل روح صغيرة كروح عصفور. في هذه اللحظة، لم نعد من أنصار المحافظة على الطبيعة الأم، ولم نعد نرفض أن نزيح الجبال من أمكنتها. من أجل روح كروح عصفور، نبدي حماستنا لنقل الجبال من أمكنتها، ونبارك من يستطيع إنجاز هذا الأمر. ها نحن نسخّر كل إمكاناتنا لنغير طبيعة الطبيعة من أجل روح عصفور. بين الأفكار الممنطقة والحياة البشرية ثمة مسافات شاسعة. في الأحوال السائرة، لن نقبل بأن تمس شجرة من جبل. وفي الأحوال السائرة أيضًا، لسنا مستعدين لأن ننقذ الغزلان من براثن النمور وأنيابها. ذلك أن هذه الأحداث تحدث بعيدًا عن عيوننا. ما نحتاجه لتبرير القتل ليس أكثر من وضع عصابة على عين القتيل ومنعه من التوسل والصراخ. في هذه الحال، وما دمنا لم نر الغزالة وهي تعاني، لن نبكي لموتها، ولن نسارع لمعاقبة النمور. أما أن نشاهد نمرًا يحاول افتراس غزالة أمام أعيننا، فسنبذل كل جهودنا لإنقاذها، في هذه اللحظة سنضرب بمنطق الطبيعة عرض الحائط، ونلتحق بأهوائنا ومشاعرنا.

اقرأ/ي أيضًا: خمسة أيامٍ غزيرة

معظم الذين تفاعلوا مع محنة ريان التي أعقبها موته، كانوا يتساءلون بحرقة: ما الذي يجعلنا متحمسين إلى هذا الحد لإنقاذ الطفل؟ في الوقت الذي يموت فيه أطفال كثيرون من الإهمال والتعنيف والفقر والبرد على الناصية المقابلة للمكان الذي نقيم فيه. وواقع الأمر أن الفارق بين تعاطفنا مع ريان وعائلته، ورغبتنا بإنقاذه تتصل أولًا بواقع أن الأطفال الجائعين على الناصية يحتاجون منا أن نغادر مرحلة القلق والتضامن، لنبدأ بالعمل والنشاط. أطفال المخيمات في لبنان وسوريا والأردن وفي كل مكان يموتون من البرد، ولأنهم يموتون على مرمى حجر من بيوتنا، فإن إعلان تضامننا معهم يحتاج منا أن نتحرك نحوهم، أن نحاول حقًا أن ننقذهم من المصير الذي ينتظرهم. هذا أمر يختلف اختلافًا جليًا عن جلوسنا خلف شاشات حواسيبنا وتلفزيوناتنا ومتابعة أخبار طفل يغرق في العتم والماء، وإبداء القلق وتعظيم الخوف عليه. فجرعة القلق التي نأخذها في هذه الحالة تعوضنا قليلًا عن اللامبالاة التي بتنا ندمنها تجاه الأطفال في المخيمات التي تقع على مرمى حجر.

تقرير هذا الأمر وتعيينه لا يريد في أي حال من الأحوال إدانة أنفسنا. نحن نعرف جيدًا أن تمرين النفس على القلق والحزن حيال أطفال المخيمات القريبة لن يغير في واقعهم شيئًا. إنهم هنا والآن يضنيهم البرد والجوع والعري والأمراض، وليس في مكنتنا الدفاع عنهم. أو تغيير الكثير في أوضاعهم. ما نستطيعه حقا لا يتعدى أن نطعم طفلًا وجبة ساخنة ليوم أو يومين. لكننا لا نملك القدرة ولا نستطيع أن نستمر في رعايته حتى يخرج من محنته. وحتى لو امتلكنا القدرة على رعاية طفل واحد، فثمة أطفال لا يحصون عددًا منذورون للبرد والجوع.

لو حدث ونجا ريان كان يمكن لكثرتنا أن تغير في مستقبله، وأن تجعلنا قادرين على توقع هذا المستقبل. كنا نستطيع رفعه إلى الحافة التي نقف عليها، ونشاركه مصيرنا ومستقبلنا

إنه الزمن أولًا: ريان مهما طالت محنته، كانت لا بد ستصل إلى خاتمة ما في وقت قريب. وقت نستطيع، إذا بذلنا قليلًا من الجهد، إنفاقه حتى نتبين مصيره. في هذه الأثناء، ونحن ننفق من وقتنا على متابعة أخباره، نعيد تمرين أنفسنا أن نكون بشرًا. نبكي ونحزن ونخاف ليس لأن حادثة ريان هائلة الحضور، بل لأن هذه الحادثة مناسبة لتذكيرنا بعجزنا أن نكون بشرًا أمام أهوال من نراهم كل يوم يتسولون في الطرقات. الأرجح أننا نبكي ونحزن ونخاف على ريان ومصيره، لأن البكاء والحزن والخوف لا تكفي لتعويض لامبالاتنا حيال أطفال آخرين.

اقرأ/ي أيضًا: بعد صمود ملحمي في أعماق الأرض.. الطفل ريان يفارق الحياة

إنها القدرة ثانيًا: كل واحد منا لو توافرت له الظروف يستطيع أن يساهم في عملية الإنقاذ، وواقع أننا كمتضامنين كثر إلى الحد الذي فاق تصوراتنا، يجعلنا أوثق بقدرتنا على الإنقاذ وتغيير مصير الطفل الذي وقع في البئر. في حال الأطفال المعانين الآخرين، نجد أنفسنا نحن المتضامنون القادرون على المساعدة، ضئيلين وقليلين، ولا نملك ثقة الناجين الذين يستطيعون مد حبل لانتشال من وقع في البئر. الأرجح أننا كلنا نقبع في قاع البئر وننتظر مصيرنا.

إنه التوقع ثالثًا: لو حدث ونجا ريان كان يمكن لكثرتنا أن تغير في مستقبله، وأن تجعلنا قادرين على توقع هذا المستقبل. كنا نستطيع رفعه إلى الحافة التي نقف عليها، ونشاركه مصيرنا ومستقبلنا. في حالة الأطفال المعانين الآخرين، نحن عاجزون عن رؤية الغد. تكفي عاصفة شتائية غير متوقعة أن تلحق بهؤلاء أضرارًا لا تُحصر. نحن لا نملك أن نفكر في غدهم. إنهم ينتظرون في هذا البرد كمحتضرين، ونحن نحاول جهدنا أن نشيح بعيوننا عنهم ونفكر في من يمكن إنقاذه دونهم.

بعضنا يتذكر الممرضة في إحدى روايات ميلان كونديرا التي تقرأ قصة عاطفية وتنهمر دموعها وهي تتابع معاناة الشخصيات في الرواية، فيما يقبع بقربها مريضها الذي يعاني حقيقة وعيانًا، لكنها لا تعيره انتباها، بل ويغيظها أن يطلب منها مساعدة أو انتباهًا. وبعضنا يتذكر البكاء المفجوع على نور الشريف في فيلم لا تبك يا حبيب العمر، هذا الرجل نفسه لم يجد كل هؤلاء يبكونه حين مات. هل كنا حقا نرغب بإنقاذ ريان أم كنا في حقيقة الامر نرغب في إنقاذ أنفسنا.

كلنا رغبنا في أن يبقى ريان حيًا، لأننا في قرارتنا، نريد أن نغذي مشاعرنا المتضامنة، ونفضل أن نحقق هذه التغذية من دون خسائر يتكبدها من نتضامن معهم

في حال ممرضة كونديرا، ندرك أنها متعبة من أحوال مريضها المشرف على الموت، ونعلم جيدًا أنها تؤدي وظيفة مقيتة، تلزمها بأن تراقب المحتضرين وهم يموتون، مريضها هذا ليس الأول ولن يكون الأخير، وعليها أن تتابع حياتها، كما يتابع الجزار حياته بعد ذبحه خرافًا تكفي لإطعام المدينة التي يقيم فيها. وكما يقلق الجلاد على صحة العصفور الذي يربيه في القفص فيما دم المعتقل ما زال يلطخ يديه. لكننا في محنة ريان كنا جميعًا نخشى من الأسوأ. لا نريد للطفل أن يغادر هذه الحياة، ونحرص على بذل ما نستطيع من وقت لمتابعة تطورات عملية الإنقاذ. لكنه بمعنى ما، حتى لو خرج حيًا، فكان ليكون موضوعًا حارًا لمشاعرنا المتضامنة معه والمحبة له لوقت طويل. موته، في وجه من الوجوه، خذلنا. اقتطع كما كبيرًا من لطفنا وكياستنا ومشاعر التضامن لدينا، ولم يسمح لنا، أي موته، بتغذية هذه المشاعر وإطلاق عنانها.

اقرأ/ي أيضًا: كما لو أننا أصبحنا أبناء منام

كلنا رغبنا في أن يبقى ريان حيًا، لأننا في قرارتنا، نريد أن نغذي مشاعرنا المتضامنة، ونفضل أن نحقق هذه التغذية من دون خسائر يتكبدها من نتضامن معهم. على الأرجح كنا سنؤلف له معاناة قد لا يتذكرها راشدًا فيما لو قدر له أن يعيش ونرغب بتعويضه عنها.

مات ريان، وقبل موته، في أثناء محنته الأصعب، وبسبب من هذه المحنة، نجحنا في أن نتلمس عمق مشاعرنا الإنسانية حيال الآخرين. والأرجح أننا بعد وقت قصير سننسى محنته، ونبحث بعيوننا وأسماعنا عن ضحية أخرى لنتضامن مع عذابها، كما لو أن هذا اللطف وذاك التضامن لا يمكن له أن يتمظهر إلا حين تكون معاناة الأخر صغيرة ومحدودة بحدود قدرتنا على المساهمة في إنهائها. هكذا ومن دون أن نقصد نرمي كل يوم قربانا للقدر والحروب والأعاصير، وحين تشتد محنة الضحية، نكتشف مرة جديدة أننا بشر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إماتة الموت

وصايا الأجداد.. وأمجادهم