07-فبراير-2022

حشد قرب فرق الطوارئ التي كانت تعمل على إنقاذ الطفل ريان (Getty)

ستحدث الفظائع لا محالة، وفي حدوثها لن تُعير انغماسنا في البحث عن مسبباتها اهتمامًا يُذكر، سواء عزوناها للطبيعة والمادة، أو لأقدار فُصّلت لنا سلفًا من إله لا يستطيع أيٌّ منا معه صبرًا، وسننجو من بعضها لأننا راكمنا في هذا العصر قدرًا لا بأس به من العلوم، وأعقبناه باختراعاتٍ جعلتنا أشد بأسًا من السالفين في مواجهة المجهول، إلا أننا، باعتقادي، لم نطوّر بعد آليات لمواجهة خطر داهم، يجتاحنا كسربٍ من البراغيث يستقوي على كلب، وهو اعتياد تلك الفظائع التي استطعنا تخطّيها.

 الأصل في الانسان الخير أم الشر؟ الذكاء أم البلاهة؟ ربطُ الخيوط ببعضها والوصول إلى استنتاجات منطقية أم البحث عمّا يمكن تقديسه؟

اعتراني خوفٌ لم أشعر به منذ زمن، في الساعات الأولى التي تَلَت تلقي خبر سقوط طفلٍ يدعى ريان، في بئرٍ يبلغ عمقه عشرات الأمتار، شمالي شرقي المملكة المغربية. أو تحريًّا للدقة، لم أشعر بذلك الخوف قط في حياتي إلا حين وردني خبر نقل أعز أقربائي لإجراء عملية قلب مفتوح إثر سكتة، أليس هذا غريبًا؟

اقرأ/ي أيضًا: كما لو أننا أصبحنا أبناء منام

سُلبت طفولتي في بلادي، وعاصرت سلب الاحتلال طفولة آخرين كثر، كما بات تلقي أخبار القتل والتهجير جزءًا لا يتجزأ من نمط حياتي كفرد من مجموعة كبرى تدعى الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من شعوري بعد تلقّي كثيرٍ منها بأنني تبلّدت، أي لم يعد أي من هذا قادرًا على استفزاز مُقلَتَي، أتعرض لموقفٍ كهذا، يُفترض أن يمسّني بدرجة أقل، إلا أنه خلافًا لأي فرضية، يُذكّرني بأن قلبي لا زال ينبض، وعيني لا زالت تدمع، وأطرافي لا زالت ترتعش، فأتنهّد مُطوّلًا، وبكل ما لدي من حبٍ وخوف على شقيقي أحمد الذي من عُمر ريان، وأدعو لريان.

أتساءل: هل سيقوى طفلٌ عطشانُ جائعٌ متألمٌ على الصمود خمسة أيام في قعر بئر؟ العلم يقول لا، والعقيدة تقول لمَ لا؟ وأنت تختار اتّباع ما يجعلك في هذه اللحظة أقل خوفًا، لكن سرعان ما بَدّد اليوم الخامس هذه الغيوم المُترفة. مات ريان، واستعرت داحس والغبراء مجددًا بين الملحدين والمحافظين، بين القوميين وأبناء الانتماءات القُطريّة، ودعنا لا ننسى مؤيدي النظام الحاكم هناك ومن يعتقدون أنه مقصّر. تتبددت الأيام التي اخترنا جميعنا كأفراد هذا الجحيم الغالي والكبير، بموجب عقدٍ اجتماعي لا أدري من وضعه ووفق أي أسس، ألا نفعل سوى أن نُحب، ونخاف، ونتفاءل، بنُبل وصدق شديدين، وعدنا من حيث بدأنا.

والعجيب في الأمر هو أنني لم ألبث مشمئزة من انتهاك حُرمة الموت فيما قرأت وسمعت كثيرًا، إذ فقدت صوابي أنا الأخرى إثر رؤية مشهدٍ لمجموعة من قُطاع الطرق، استحلوا شارعًا في مدينة الخليل وأشهروا أسلحتهم، التي يعلم القاصي والداني أنهم ما كانوا ليمتلكوها لو لم يبتاعوها من رجالات السلطة الفلسطينية، أو وكلائهم المرضي عنهم للغاية، ولم يكتفوا بإطلاق الرصاص نحو السماء في مشهد "فتحاوي" كليشيهي للغاية، بل سجّلوا مقاطعًا يكيلون فيها التهديد والوعيد لأهل الضفة الغربية، لتنهال علينا بعدها حسابات الموالين للسلطة من كل حدبٍ وصوب، لتذكيرنا بأنه ما من جسم سيحمينا من أمثال هؤلاء في حال استمرارنا بمطالباتنا السخيفة المتعلقة بإسقاط السلطة، أو إجراء انتخابات شاملة على أقل تقدير.

تملّكني غضبٌ شديد وعارم، لا يعرف اتجاهًا ولا مُذنبًا، غضبٌ على كل هذه الفوضى، التي على إثرها لم تعد كل كتب الدنيا قادرةً على حسم شيءٍ في رأسي، الأصل في الانسان الخير أم الشر؟ الذكاء أم البلاهة؟ ربطُ الخيوط ببعضها والوصول إلى استنتاجات منطقية أم البحث عمّا يمكن تقديسه؟ وأيًّا كانت الإجابة، هل نحن قادرون على إحداث شيء من موقعنا هذا؟ أم أننا نُضيع أيامًا لن نستعيدها في البحث عن الشقاء بلا جدوى؟ هذا المُخاض الفكري، والتشظّي العاطفي، كثيرٌ بعض الشيء على إنسان لم ينعم بنومٍ هانئ منذ بضع أيام.

هل نحن قادرون على إحداث شيء من موقعنا هذا؟ أم أننا نُضيع أيامًا لن نستعيدها في البحث عن الشقاء بلا جدوى؟

تتناول قرص الميلاتونين، تطفئ النور مُحاوِلًا أن تغفوا عبر التركيز في شيء سخيف وغير مؤرق وينجح ذلك، ثم تستفيق صباحًا لتُكمل من حيث انحرفت مجاريها عن مجاريها قبل خمسة أيام، وبعد بضع ساعاتٍ من العيش على هذا النحو، تفقد صوابك مجددًا، أليس جنونًا أن يحدث كل هذا، وأن نستفظعه إلى هذا الحد، ثم أن يتبدد الاستفزاز الناجم عن الاستفظاع دون أن يستفز فينا روح المبادرة ولو إلى تحرك بسيط؟ تبلّدنا بالفعل.

اقرأ/ي أيضًا: بغداد.. أيُّ قاربٍ أنتِ!

هذه الخشية من اعتياد الفظائع، هي الخشية من أن نتحوّل إلى مسوخ، أو إلى أنصاف بشرٍ بأنصاف مشاعر وأنصاف عزائم بالنتيجة، وهي دائرةٌ مغلقة نسير فيها في هذا الجزء من العالم لكثرة ما عصف به من فظائع، مُجرجرين أذيال الخيبة تارةً، وملوّحين برايات النصر تارةً أخرى، ليس لأننا نعرف مدخلًا للدائرة أو مخرجًا، بل لأن غريزة النجاة تعلوا على كل الغرائز، تدفعنا باتجاه المسير باحثين عن ضوء، أيّ ضوء، بوسعه أن يكشف لنا ما نحن بصدد مواجهته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إماتة الموت

رثاء الشوارع