14-نوفمبر-2021

مارغريت دوراس (1914 - 1996)

1

لا أعرف إذا ما كان عشقي لأسلوبية مارغريت دوراس هو الذي يجعلني أقع في كلّ مرّة أقرأها فيها تحت سطوة سلطة من نوع خاصّ، كلّما فكّرتُ في طبيعة هذه السلطة يستعيد ذهني تلك العبارة التي وردت في شهادة أحدهم حول كتابات دوراس، والذي قال فيها إنّ كتابات دورا تُمارس على قرائها "وبشكل عفوي نوع من السلطة الجمالية"، دائمًا ما تُمارس عليّ كتابات دورا هذا النوع من السلطة، حتى أنني ما أن أبدأ في قراءة إحدى كتاباتها حتى أجدُ نفسي مستغرقةً فيها حتى الأقاصي، ولا شيء يوقظني من استغراقي ذاك في العادة سوى كلمة النهاية التي تأتي كالمنبّه، ترنّ في أذني بأنّه قد حان وقت الاستيقاظ.

إنّ السلطة الجمالية في كتابة دورا قادمة من حقيقة أنّ الكتابة العارية هي دائمًا كتابة أجمل

إنّ السلطة الجمالية في كتابة دورا قادمة من حقيقة أنّ الكتابة العارية هي دائمًا كتابة أجمل، وأقول عنها عارية لأنّها من النوع الذي يأتي ليكشف ويُعرّي، أتذكّر هنا مقولة ذلك السائق الذي قال لي بعد أن أوصلني إلى محطتي في ذلك اليوم "الله يستر عليكِ"، أتذكّر مقولته وأضحك، وأتخيّل أنّ هناك نوعين من الكتابة؛ كتابة عارية وكاشفة تأتي لتكشف مواضع الضعف والهشاشة والرغبة والنقص والخوف في النفس الإنسانية، وكتابة أخرى من نوع "الله يستر عليكِ"، إنّ الكتابة الثانية هي كتابة تتعالى على الحقائق، هي كتابة تأتي كنوع من لَبوس الحشمة، تُلقي على النفس الإنسانية خمارَ الحجب، تحجب ما فيها من حقائق ونقائص وبقع سوداء، إنّها كتابة تختلف عن كتابة دورا، تلكَ التي يُهيّأ لي وأنا أقرأها أنني أمام كتابة من النوع الذي يصِف ويشِف ويأتي بما لا يخفي من الحقيقة شيئًا.

اقرأ/ي أيضًا: عن القناع الشعريّ

2

عندما أقرأ لدورا أستحضر موقعي كامرأة تكتب، وأقرأها بمزاجٍ ملؤه الرغبة الجامحة، أنا أرغب في تلك الجرأة التي امتلكتها دورا في كتابتها، دورا التي جعلت من حياتها الخاصة "مصدرًا حيويًا لتزويدها بالمادة والإلهام لكتابتها الروائية"، التي كتبت رواية "العاشق" لتروي فيه قصتها مع عاشقها من الصين الشمالية، وقد كانت آنذاك في الخامسة عشرة من عمرها.

في روايتها "العاشق" لجأت دورا إلى استخدام لغة روائية جذابة في أكثر من مقام، في السرد والتوصيف والشرح؛ تسرد دورا في هذه الرواية قصة اكتشاف جسدها الأنثوي مع عاشقها الصيني الذي يكبرها بكثير، تصف معرفتها الأولى بتفاصيل رغبتها الأنثوية في اكتشاف الجسد الذكوري وتقول "تلمسه، تلمس نعومة الجنس، نعومة الجلد، تداعب اللون المذهّب، تداعب الجديد المجهول".

لعلّ أكثر النصوص التي يظهر فيها ذلك الهوس الدوراسي بالكتابة ومشهدياتها، ذلك النصّ الذي كتبته دورا حول ذبابة تموت

عندما قرأتُ رواية "العاشق" كنتُ وكأنني ألتهمها التهامًا، أنهيتها في جلسة واحدة، كنتُ مستمتعة بالقراءة لهذه المرأة الذي تكتبُ عن جسدها الأنثوي كأنّها تؤرّخه، كأنّها تعتبر معاينتها للذته الأولى التي ذاقتها مع عاشقها الصيني بمثابة انتصارٍ شخصيٍّ لها، وكأنّها تقول في روايتها بأنّ الانتصارات الشخصية الصغيرة –حتى لو كانت على مستوى معاينة لذة الجسد الأولى- هي الأولى بأنّ تُسطّر لها الصفحات ولها الأحقية بأن يُحتفى بها وأن يُكتب عنها لتؤرّخ!

اقرأ/ي أيضًا: النصوص من كواليسها

3

لعلّ أكثر النصوص التي يظهر فيها ذلك الهوس الدوراسي بالكتابة ومشهدياتها، ذلك النصّ الذي كتبته دورا حول ذبابة تموت، تحكي دورا في كتابها "أن تكتب.. الروائي والكتابة" أنّها ظلّت تُراقب الذبابة وهي في أطوار موتها ثلاثة وعشرين دقيقة، ثلاثة وعشرين دقيقة ظلّت عينا دورا ملتصقتان بمشهد الذبابة المحتضرة، تكتب دورا بأنّه لم يسبق لها أن حكت قصة هذه الذبابة لأحد، ولم يسبق أنّ تعرّضت لهذه الحادثة التي شهدتها بأمّ عينها بغير طرق الكتابة، تقول دورا: "لم يسبق لي أن حكيت موت هذه الذبابة، مدته، بطأه، خوفه المريع، حقيقته"، وتستطرد في حديثها حول حادثة موت الذبابة بقولها: "إنّ الذبابة كانت تعرف أن الصقيع الذي يخترقها هو الموت، هذا الأشد رعبًا، اللامتوقع، كانت تعرف، وتقبل مصيرها".

أفكّر كلّما قرأتُ نصّ دورا هذا بالدافع وراء إصرار دورا على مراقبة الذبابة، هل هي عين الكتابة فيها من حفزتها على الاستمرار في المراقبة من أجل تسجيل تفاصيل موتها، أم أنّ مراقبتها –بالصدفة لها- قادتها نحو لحظة الكتابة عنها؟ لربّما أنّ هذا السؤال يُشبه ذلك السؤال الفلسفي الذي يأتي دائمًا كمعضلة "هل البيضة تسبق الدجاجة أم الدجاجة تسبق البيضة؟"، وربّما أنّ إجابته الوحيدة هو أن يبقى دائمًا دون إجابة.

4

في روايتها "العاشق" تستذكر دورا إحدى صورها أيام شبابها، تقول عن تلك الصورة بأنّها الصورة الوحيدة التي تُعجبها عن ذاتها، تصف دورا تلك الصورة وتقول: "هي التي تُعجبني عن ذاتي من بين جميع الصور الأخرى، وهي الوحيدة التي أتعرّف فيها إلى نفسي، والتي تسحرني".

في كتابها "أن تكتب.. الروائي والكتابة" تصف دوراس عملية الكتابة بأنّها توحّش الإنسان

اقرأ/ي أيضًا: ابني الذي يكره الكتب

أفكّر وأنا أقرأ وصف دورا السابق بتلك الصعوبة التي تواجهها المرأة في العثور على صورة تُشبهها عن نفسها، تُشبه تصوراتها عنها، تخيلاتها عن ملامحها وتفاصيلها ولو على مستويات ظاهرية، أستذكر هنا تلك القَصة الفرنسية التي اخترتها قَصة لشَعري في بداية هذا العام، أتذكّر وقوفي الأوّل أمام المرآة بعد أن قصَصتها، وأعيدُ ترديد الحديث الذي وجهته لنفسي لحظتها "يا إلهي شو بشبه حالي"، أتذكّر ذلك، وأُعيدُ إقراري بأنّ هذه القَصة هي الأجمل عليّ على الإطلاق، إنّها تُشبه صورتي كما تخيلتها منذ الأزل، كما رسمت ملامحها وتفاصيلها، "هي قَصة تحتاج إلى الجرأة"، هكذا قالت لي إحدى الصديقات، أقول ربّما يكون هو هذا السرّ وراء إعجابي بنفسي فيها، أنني أرغبُ في إسقاط نفسي في فخّ الصفات المرافقة، أنا أرغبُ في صفة الجرأة التي تُلصقها بي تلك القَصة، أقول ذلك ثمّ أنفي عني هذا التفسير، أنا لا أملك أي تفسير موضوعي لإعجابي بصورتي في تلك القَصة، ولا أستطيع أن أعرف الأسباب الحقيقية وراء استلطافي لنفسي بها إلى هذا الحدّ، كلّ ما أعرفه هي أنّها الصورة الوحيدة التي "أتعرّف فيها إلى نفسي، والتي تسحرني".

5

في كتابها "أن تكتب.. الروائي والكتابة" تصف دورا عملية الكتابة بأنّها توحّش الإنسان، تقول دورا في كتابها "إنّ الكتابة توحّشك"، دائمًا ما أفسّر عبارة دورا السابقة في أطر مناقضة ربّما لمقصدها، أقول بأنّ الكتابة هي إخراج للوحشية التي تسكن الإنسان، إنّها الوحشية التي تخرج بالكتابة كما وصفتها دورا وقالت عنها بأنّها "صرخات حيوانات الليل"، "صرخات الكلّ". أتذكّر هنا ذلك السؤال الذي وجهّه لي معالجي النفسي في إحدى الجلسات عندما قال: "انتي لما بتعصبي أو بتحزني كيف بتعبري عن حالك؟"، أتذكّر أنني أجبته بكلمة واحدة: "بكتب"، أستعيد كلمتي وأقول إنّها ""بكتب" التي تأتي كما لو كانت مرادفًا لعبارة "بطلِّع الوحشية اللي جواتي"، إنّها صرخات حيوانات الليل التي تسكنني، إنّها عواءات الذات والداخل التي تَخرج وتُخرج معها حقيقتي البربرية والبرية، إنّها ممارسة أخرجُ فيها ومعها حالاتي الشعورية المتطرفة والمتوحِّشة، أخرجها كما لو أنّها صرخات حيوانات ضارية، يَسكُنها جوعٌ دائمٌ للتعبير والعواء والكتابة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الأدب والسياسة.. هل يمكن فك هذا الارتباط؟

قراءة الأدب: الإحساس بجمال اللغة كقيمة معرفية