مخترع الطائرة هم عدة مخترعين. فمنذ فجر التاريخ طمح الإنسان لإتقان الطيران ومحاكاة تحليق الطيور في السماء. وُلد هذا الحلم مع الأساطير والملاحم القديمة، لكن تبقّى مجرد حلم بعيد المنال طالما ظلت قدرات الإنسان التكنولوجية محدودة. إلا أن مع بزوغ القرن العشرين، تحقق ما اعتبره الكثيرون مستحيلاً بفضل عبقرية أولئك الذين تحدوا القيود. لكن لمن يعود الفضل في اختراع الطائرة؟ ومن هو الشخص الذي استحق تلك المرتبة التاريخية باعتباره "مخترع الطائرة"؟.
في هذا المقال، نغوص في تفاصيل هذه القصة المذهلة لنكشف خفايا هذا الإنجاز العلمي الفذ، منذ البدايات المليئة بالتجارب وحتى يومنا الحاضر، الأمر الذي جعل من العالم قرية أصغر بكثير مما قد عرفته البشرية سلفًا.
تتصدر قائمة مخترعي الطاائرات بلا منازع أسماء الأخوان الأمريكيان أورفيل وويلبر رايت.
من هو مخترع الطائرة؟
لا تخلو مسألة تحديد مخترع الطائرة من الجدل فهنالك قائمة من الأسماء، تتضمن أبرز الجهود المضنية التي أسهمت في مجال علوم الطيران. لكن عندما نسأل حول الشخصية الرئيسية التي رسخت قدمي الإنسانية في سماء الطيران الحديث، تتصدر القائمة بلا منازع أسماء الأخوان الأمريكيان أورفيل وويلبر رايت. وقبل الإبحار في نجاح هذين الرائدين، دعونا نتعرف على بعض العلماء المتميزين السابقين لهما والذين مهّدوا الطريق أمامهما:
-
عباس بن فرناس
عباس بن فرناس هو عالم أندلسي من القرن التاسع الميلادي. يعتبر مخترع الطائرة الأول ومن رواد علوم الطيران وأول من جسّد حلم الارتفاع في الأجواء بتصميمه لجهاز بدائي من القماش المشدود على هياكل خشبية يشبه أجنحة الطيور، وقفز من مرتفعس على أمل تحقيق الطيران لمسافة معقولة. ورغم انتهاء التجربة بإصابته، فإن محاولة عباس بن فرناس الشجاعة تركت أثرًا واضحًا في نفوس الكثيرين ممن حذوا حذوه.
نموذج تخيلي لطائرة عباس بن فرناس
-
ليوناردو دافنشي
يصعب الحديث عن الاختراعات دون ذكر عبقري النهضة الإيطالية ليوناردو دافينشي، كان ليوناردو (1452-1519) عبقريًا متعدد المهارات، تجسد فيه مفهوم "رجل عصر النهضة" الذي برع في مجالات شتى مثل الفن والهندسة والنحت والاختراعات وغيرها. وُلد ليوناردو في بلدة فينشي الإيطالية. لم يتم توثيق الكثير عن والدته التي يعتقد أنها كانت فتاة فلاحية، بينما كان والده محاميًا ثريًا وربما يكون قد ربّاه. تركت موهبة ليوناردو أثرًا بالغًا على عصره وما تلاه، فهو لم يكن فنانًا مبدعًا وحسب، بل صاحب تفكيرٍ علمي تجاوز زمنه.
تتجلى العقلية الاستكشافية لدافنشي في رسوماته الميكانيكية الطموحة والمفصلة. ورغم عدم تنفيذها في حياته، فإن مخططاته لأجهزة تشبه مروحيات وطائرات ثابتة الجناحين ومجموعة من الآلات الطائرة الأخرى التي سمّيت إحداها "الأورنيثوبتر"، ساهمت في الأساس المفاهيمي لتطوير علم الطيران، وألهمت المخترعين الذين جاؤوا بعد قرون ليحولوا أحلام الطيران إلى واقعٍ ملموس. وتضع هذه المفاهيم والرسومات التي صاغها ليوناردو دافنشي بصمته كمحفزٍ ومساهمٍ فكريٍ بارزٍ في مجال تاريخ الطيران، مع الاعتراف بالطبع بإسهامات الآخرين ممن حولوا الخيال العلمي إلى حلول عملية لاقت حيز التطبيق على أرض الواقع.
نجح كايلي في تصميم وصناعة طائرات شراعية (بدون محرك) وحلق فوق مسافات قصيرة معها في القرن التاسع عشر.
-
السير جورج كايلي
لقب العالم البريطاني السير جورج كايلي لاحقًا بـ"أبو علم الطيران" نظرًا لدراساته وإنجازاته الرائدة في فهم أساسيات تحليق الأشياء الأثقل من الهواء (الأيروديناميك) حيث يُعد أحد أهم المؤسسين لعلم الديناميكا الهوائية الحديث. ونجح كايلي في تصميم وصناعة طائرات شراعية (بدون محرك) وحلق فوق مسافات قصيرة معها في القرن التاسع عشر، ووضع نظريات مهمة فيما يتعلق بقوة الرفع وحسابات مقاومة الهواء، كما أن له الفضل في تطوير المبادئ الأساسية لحركة وتموضع الجنيحات وارتفاع المركبات الطائرة.
-
أوتو ليلينتال
قبل نهاية القرن التاسع عشر، ذاع صيت المخترع الألماني أوتو ليلينتال، "ملك الطائرات الشراعية." كرس ليلينتال سنوات طويلة لإتقان صناعة الطائرات الشراعية وإجراءات السلامة خلال الطيران. وقد قام بأكثر من ألفي رحلة طيران عبر طائرته، مستفيدًا من تيارات الهواء للارتفاع والتحليق. وأصبحت رحلاته مصدر إلهام ونموذج دراسي للأخوين رايت اللذين كانا يديران متجرًا للدراجات الهوائية وألهمهم ليلينتال للخوض بشكل أعمق في عالم الطيران. للأسف، فقد ليلينتال حياته أثناء إحدى رحلاته الشراعية إثر تحطم طائرته مما يشير للمخاطر الجمة التي خاضها هؤلاء الرواد الأوائل.
-
الأخوان رايت
وُلد الأخوين وايلبر وأورفيل رايت، لأبوين هما ميلتون رايت وسوزان كاثرين كورنر. نشأ المخترعان في أسرة شَجعت الفضول والاستكشاف. تميز أبوهما بشغفه، وحسه الديني. مما أكسبه لقب أسقفٍ في إحدى الكنائس المحلية، بينما اتسمت أمهما بدهاءِها الميكانيكي. وبرغم عدم حصول الأخوين رايت على أي تعليم رسمي بعد المرحلة الثانوية، إلا أن بيئتهم الحاضنة هيأت الأرضية المثالية التي أثمرت ابتكارهما التاريخي الذي غير وجه الملاحة والعالم من حولهما.
يعتبران الأمريكيان أورفيل وويلبر رايت من العلامات الفارقة في تاريخ الطيران بسبب تجاربهما الثورية، حيث تجاوزا مرحلة الاعتماد على تيارات الهواء أو القفز من منحدرات عالية لتحقيق الارتفاع، وسعياً لتطبيق فكرة الطيران الذي يتحكم به الإنسان باستخدام قوةٍ ميكانيكية. تميز الأخوان رايت باتباع منهجٍ دراسي وتجريبي مدروس بعيدًا عن المغامرات العشوائية، وتتمثل ب:
- طائرات شراعية وبدايات واعدة: درس الأخوان رايت تصميمات أوتو ليلينتال بدقة وأخذا بتطبيق ما تعلموه عمليًا ليطوروا نماذج متعاقبة لطائرات شراعية نجحت بالارتفاع والتحليق. وقد خاضا عددٍ هائل من التجارب لضبط أسلوب التحكم وديناميكية الحركة في الجو.
- إضافة المحرك.. الإنجاز الأكبر: بعد دراسةٍ عميقة لمبادئ الاحتراق صنع الأخوان مُحركًا بسيطًا يعمل بالبنزين لتزويد طائرتهما بقوة دفع آلية. وفي يوم 17 ديسمبر 1903، كان الإنجاز المذهل على الساحل الأمريكي في "كيتي هاوك" (كارولينا الشمالية) عبر أول رحلة مُسجلة لطائرة بمحرك. تميزت طائرتهما "الطيار" (Flyer) بتصميم ذي جناحين. مع قدرة مبدئية على التوجيه والمناورة بشكلٍ بسيط والهبوط بأمان. نجحت طائرتهما في هذه الرحلة التاريخية بالارتفاع عن الأرض لحوالي 12 ثانية حيث حلقت مسافة 120 قدمًا (37 مترًا تقريبًا).
- تطوير واستمرار: واصل الأخوان رايت ابتكاراتهم. وحسّنا أداء طائرتهما عبر رحلاتٍ لاحقة حيث زادت فترة التحليق وقدرة التوجيه، مما عزز فكرة أن هذا الاختراع ليس مجرّد محاولة عابرة وإنما قابلٍ للتطبيق، ويحمل مُستقبلًا واعدًا.
منافسون آخرون وادعاءات في اختراع الطائرة
مع إجماع معظم الهيئات والمؤرخين العلميين على مكانة الأخوين رايت كمخترعين للطائرة بالشكل الحديث، هنالك جدل تاريخي محدود، ويتضمن أبرز الأسماء في هذا السياق كُلًا من:
- غوستاف وايتهيد
هناك أقاويل عن نجاح المهندس غوستاف وايتهيد الذي هاجر من ألمانيا إلى أمريكا في تحقيق رحلة بطائرة بمحركٍ، سبقت رحلة الأخوين رايت بحوالي عامين. غير أن هذا الادعاء يثير التشكيك من حيث مصداقية الشهود، وقلة التوثيق الكافي لهذه الرحلة. لذا قد لا يعد غوستاف وايتهيد مخترع الطائرة الأول.
- ألبرتو سانتوس دومون
يشتهر هذا المخترع البرازيلي بتجاربه المتنوعة في عالم الطيران في أواخر القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 . حيث اخترع المنطاد وحقق به نجاحات. وفي عام 1906 تم الاعتراف برحلته القصيرة بمنطاده المزود بمحرك، وبعض أوائل رحلاته بواسطة طائرة بدائية كإنجازات. برغم مساهماته المهمة، فإن رحلات سانتوس دومون جاءت بسنوات لاحقة لإنجازات الأخوين رايت، ما قد يخفف من وطأة اعتباره أنه هو مخترع الطائرة.
تحدثنا خلال هذا المقال عن من هو مخترع الطائرة، وهم أكثر من شخصٍ. ومع التسارع التقني الكبير لاحقًا أضحت الطائرات ركنًا أساسيًا في صناعات عسكرية متنوعة إضافة لأثرها الهائل على صعيد السفر والسياحة حول العالم. ولعل رحلة الإنسان إلى الفضاء في وقتٍ لاحق لم تكن ممكنة لو لم يحول أناس أصحاب حنكة، وتصميم مثل الأخوين رايت حلم الانطلاق عن قيود الأرض إلى حقيقة غيرت مستقبل العالم بأسره.
