05-أبريل-2023
 الضابط الأمريكي ستيفن راسل يحول صورة صدام إلى شيطان في تكريت

(Getty) الضابط الأمريكي ستيفن راسل يحول صورة صدام إلى شيطان في تكريت

كنت صبيًّا في الثالثة عشرة من عمري يوم سألت والدي: "ما معنى علوج ومرتزقة؟"، فرد والدي ـ الذي لم يدخل المدرسة يومًا ـ بالتفسير الأقرب الذي جادت به قريحته من وحي اللحظة وزخمها: "هي على الأرجح نوع من الحشرات التي تلتصق بجسد الدابة وتمتص دمها".

كان ذلك في شهر آذار/مارس سنة 2003، حيث بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها بقصف العاصمة العراقية بغداد، في عملية عسكرية محدودة المدة، لتحرير العراق من دكتاتورية صدام حسين، وتجنيب العالم الخطر الهائل لأسلحة الدمار الشامل التي بحوزته، حسب الخطاب الذي توجه به الرئيس بوش الأبن للشعب الأمريكي عشية الغزو.

قال مهدي حسان في حلقة من برنامجه على MSNBC  بمناسبة عشرين سنة على الغزو الأمريكي للعراق: "دعونا نتذكر جورج بوش، لا كرسّام يداه ملطختان بالطلاء، بل بكل صراحة، كغازٍ يداه ملطختان بالدماء"

أستحضر كلمات العلوج والمرتزقة وغيرها من المفردات التي بدت لنا طريفة ومشهدية في ذلك الوقت، لصاحبها محمد سعيد الصحاف، وزير صدّام للاتصال والإعلام، وما رافقها في ذلك الوقت من احتجاج وشجب للتدخل العسكري غير القانوني، من المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، وصولًا إلى مئات الناس العاديين الذي قدموا من مدن غربية وشرقية ليقفوا كدروع بشرية في العاصمة بغداد في محاولة ضغط أخيرة لمنع الحرب.

بعد عقدين من الزمن لم يدعا أي مجال للشك لا في النوايا الحقيقية المبطنة للحلفاء، ولا في مدى نجاحهم حتى في تجسيد الحسن من نواياهم، إن وجدت، تبرز المطالبات بتحميل المسؤوليات التاريخية والسياسية لأصحابها ملحة أكثر من أي وقت مضى. لكننا على العكس من ذلك لا نشهد اليوم أي استحضار أو استبطان لما أقدم عليه الأمريكيون إلا سلبيًّا، إذ لا يكاد يذكّر العالم بالاعتداء الوحشي على العراق ـ رغم رمزية مرور عقدين عليه ـ سوى مَن هو بصدد الإقدام على فعل مماثل، وإن اختلف السياق، في إطار لعبة النفوذ بين القوى الكبرى، كما يفعل الكرملين اليوم في مواجهة اتهامات واشنطن لروسيا بجرائم الحرب في أوكرانيا، مؤكدا أن على الأمريكان أن لا ينسوا ما فعلوه بالعراق قبل تقديم دروس لهم.

يحتاج العالم اليوم إلى نوع جديد من الضمير الذي لا ينسى ولا يهدأ، حتى يجلب من أجرموا في حق الشعوب في السلام وحقها في الحلم. نحن في أمسّ الحاجة إلى نمط جديد من البروباغندا الحرة، قوة ضغط فعالة لا تضع صوب عينيها سوى قيمة الإنسان الذي حرم من حقه في الحياة والازدهار، في مقابل البروباغندا المؤدلجة، التي يقف وراءها المتمعشون من الحروب والفتن، وتكريس حمّى الكراهية الجماعية والعطش للدماء، ودعم نظام الإذلال العالمي القائم.

"دعونا نتذكر جورج بوش، لا كرسّام يداه ملطختان بالطلاء، بل بكل صراحة، كغازٍ يداه ملطختان بالدماء" هذا ما قاله الأمريكي- البريطاني الشهير مهدي حسان، في الحلقة المثيرة من برنامجه على MSNBC  بمناسبة عشرين سنة على الغزو.

في إعلامنا العربي مرت الذكرى العشرون لنكبة العراق كحدث عادي جدًا. لقد تمت تغطية حدث وفاة الملكة إليزابيت قبل أشهر بماراثون إعلامي تابعَ لحظة بلحظة خروج تابوتها من مدينة بريطانية ودخوله أخرى، ونقل كلمة كل فرد من أفراد العائلة الحاكمة وبكائياته، بينما اقتصرت ذكرى غزو العراق على وثائقيات قدمت تعدادًا باردًا للخسائر البشرية والمادية، وتحليلات استراتيجية لما كسبته أمريكا في المنطقة، وما خسرته لصالح إيران، وحوارات مشاكسة بين منخرطين في السلطة العراقية الحالية ومعارضين لها، كل يقيم وضع البلد حسب الأيديولوجيا والجهة التي تسنده. أما البرامج الإعلامية الصادحة بالحق والمذكرة بالجريمة الأبشع منذ بداية الألفية الثالثة فغابت عن الإعلام العربي لأسباب مجهولة بشكل مخيف.

إن الحلقة التي قدمها "مهدي حسان" في "Mehdi Hassan Show"، المشار إليها، بعنوان "بعد 20 عامًا، هل يجب أن يكون جورج دابليو بوش أمام المحاكم؟" ،التي صنفتها إدارة موقع يوتيوب كمحتوى "جارح أو مسيئ"، تشكل درسًا في 28 دقيقة لجميع طواقمنا ومراكزنا الاعلامية، فالغزو الذي سماه من أقدموا عليه بعملية "الصدمة والترويع" لا يزال إلى اليوم يصدم ويروع المنطقة. نتحدث عن عدد ضحايا للحرب يقدر بحوالي 700 ألف تقاسمهم القصف الأمريكي والتناحر الطائفي وانفلات الأمن وخطف المدنيين والاتجار بهم، وضعف للدولة العراقية الناشئة إلى حد هذا اليوم، جعل منها لقمة سائغة أمام داعش وأخواته في الموصل، والقبول بميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من إيران كرافد للقوات الرسمية، رغم الأموال الطائلة التي صار البلد ينفقها على التسلح.

مثّل مستنقع حرب العراق بالنسبة للأمريكيين أول رجة حقيقية بعد الحرب الباردة لعقيدة الـ "Manifest destiny" التي ظهرت مطلع القرن التاسع عشر في عهد جيفرسون ومونرو وجاكسون

لقد غيّر الغزو غير القانوني للعراق سنة 2003 معادلات كثيرة، لا داخل البلد والمنطقة فقط، بل حتى في الولايات المتحدة نفسها. ثمانون بالمائة من الرأي العام والطبقة السياسية، وعلى رأسهم ترامب، الجمهوري هو الآخر مثل بوش، يرى أن قرار الذهاب للحرب كان خطأ فادحًا. لقد جعل بوش وطغمتُه الأمريكيينَ لأول مرة منذ استقلالهم يراجعون موقفهم من إرسال قوات خارج ترابهم، كما فقد الكثيرون الثقة في جدوى حل النزاعات بالقوة، وهو ما نرى تأثيره إلى اليوم، منذ تولي أوباما السلطة والمعارك المحتدمة في الكونغرس حول سحب القوات من أفغانستان والعراق وتقليص التواجد العسكري في الشرق الأوسط عمومًا، كما يؤثر اليوم في النقاشات حول جدوى تسليح أوكرانيا بملايين الدولارات، في حرب لا تلوح لها نهاية قريبًا.

بذلك مثّل مستنقع حرب العراق بالنسبة للأمريكيين أول رجة حقيقية بعد الحرب الباردة لعقيدة الـ "Manifest destiny" التي ظهرت مطلع القرن التاسع عشر في عهد جيفرسون ومونرو وجاكسون، وهي العقيدة المتمثلة في: "الحق الذي يمنحنا إياه قدرنا الجلي بالانتشار وامتلاك كامل القارة التي منحتنا إياها العناية الالهية للقيام بالتجربة العظيمة للحرية.. لأن أرضًا تمتاز بالقوة خارجة للتو من يدي الخالق تملك رسالة مقدسة لشعوب الأرض".

إن ما يمنع الأمريكيين شعبًا ونخبة من نسيان ما حصل في العراق، رغم الفكرة الشائعة عن قصر ذاكرتهم، هو الأموال الطائلة التي ضخت في الحرب، وعدد الجنود الذي قتلوا في حرب الشوارع والكمائن، بينما لم يحقق من قرروها لا أهدافهم المعلنة، بنزع سلاح الدمار الشامل المزعوم، ولا أهدافهم المضمرة بحماية أمن إسرائيل من رعونة محتملة لصدام حسين، حيث فتح الغزو الأبواب لنفوذ عسكري إيراني أكبر في المنطقة حتى بات على تخوم حدود الكيان الصهيوني في سوريا ولبنان وغزة.

أما نحن العرب فما عذرنا في نسيان الدماء التي سالت والرصاص الذي صُب عل رؤوس الأبرياء، والفوضى التي حكمت بلدا فُككت مؤسساته عمدا وألقي به بين فكي حرب أهلية منذ عهد بول بريمر ومن خلفوه في إدارة حالة الأزمة المتواصلة؟


ضد النسيان: ملحق مختصر جدًا لما حصل بترتيب أبجدي

  • العلوج والمرتزقة يقصفون العاصمة بغداد بحرًا وجوًا.
  • تركيا تنتهك سيادة العراق بشن سلسلة غارات عسكرية على شمال العراق.
  • تفجيرات بالجملة لكنائس في بغداد يوم عيد الميلاد سنة 2013.
  • تنظيم القاعدة يشن هجومًا على سجون ويحرر أعضاء بارزين له.
  • تنظيم داعش يسيطر على الموصل ثاني أكبر المدن بعد العاصمة.
  • حصيلة ثورة تشرين 2019 تتجاوز 700 قتيلًا في صفوف الشباب المحتج المطالب بالقضاء على الفساد والتدخل الخارجي.
  • رجل يُكوى في خصيتيه بالكهرباء ومجندون يصورون معه ضاحكين.
  • شركة بلاك ووتر تقتل 17 مدنيًا مدنيًا عراقيًا في ساحة النسور سنة 2007 وتمثل أمام القضاء الأمريكي، قبل أن يفرج ترامب عن الجناة بعفو رئاسي.
  • شنق الرئيس العراقي صدام حسين صباح عيد المسلمين المقدس.
  • صحافي مقهور اسمه منتظر الزيدي يرمي نعله على بوش الصغير وينعته بالكلب.
  • مقتل 82 شخصًا في حريق مستشفى ابن الخطيب في بغداد.
  • مقتل حوالي 100 شخص في حريق مستشفى الناصرية المخصص لعزل مرضى كورونا.

تعمدت أن لا أستعين بالإنترنت حين جلست لأدون هذه الأحداث والتواريخ، رغم ذاكرتي المثقوبة، ذلك أن كل واحدة منها ترتبط بوجع يأبى أن يغادرني كمواطن عربي.

وأنت؟ ما الذي تعنيه لك هذه السنوات العشرون منذ غزو العراق؟ أرجو أن لا تكون من الذين سيتذكرون جورج بوش كرسّام، وأرض العراق كمعرض للوحاته.

يقول ميلان كونديرا في "كتاب الضحك والنسيان": "إن صراع الإنسان مع الطغيان (السلطة) إنما هو صراع للذاكرة في مواجهة النسيان".