24-أغسطس-2023
gettyimages

تحطم طائرة زعيم فاغنر، جاء بعد شهرين بالتمام من تمرده على القيادة العسكرية الروسية (Getty)

ظهر زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين، ليتصدر وسائل الإعلام حول العالم مع تعثر الغزو الروسي لأوكرانيا، مجسدًا المعنى الفعلي لـ"أمير حرب"، الذي لم يحقق الأموال والنفوذ منها، بل تجاوز ذلك إلى محاولة لعب أدوار سياسية، كان تجليها الأكبر في تمرده القصير يوم 23 حزيران/ يونيو، قبل شهرين من تحطم طائرته شمال موسكو.

برزت صورة بريغوجين، مع معركة باخموت تحديدًا، التي خاضتها قواته لمدة تزيد عن 6 أشهر، وذلك بعد سيطرته على بلدة سوليدار، وهي معارك ساهمت في إطلاق بريغوجين، لسلسلة انتقادات استهدفت القيادة العسكرية الروسية، وبالأخص وزير الدفاع الروسي، ورئيس هيئة الأركان الروسية وقائد الحملة العسكرية على أوكرانيا.

برزت صورة بريغوجين، مع معركة باخموت تحديدًا، التي خاضتها قواته لمدة تزيد عن 6 أشهر

خرج زعيم فاغنر من روسيا، في نهاية تمرده الفاشل، بوساطة من رئيس بيلاروسيا، وخلال تلك الفترة قل ظهور بريغوجين بشكلٍ كبير على وسائل الإعلام على عكس المعتاد، ولم يظهر في مقطع مصور، إلّا يوم الثلاثاء، أي قبيل مقتله بحوالي 24 ساعة.

"طباخ بوتين" والذي تحول إلى "خائن" في يوم التمرد، برز في صيف 2014، وذلك خلال اجتماع في مقر وزارة الدفاع الروسية، حضره بريغوجين، متعهد الطعام السابق للجيش، مطالبًا وزارة الدفاع، بالحصول على معسكر من أجل تدريب "متطوعين" ليس لديهم روابط رسمية بالجيش الروسي، من أجل استخدامهم لخوض حروب روسيا، وذلك في الحين كانت بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا.

لم تكن مهمة بريغوجين سهلة، إلّا عندما قال لقادة وزارة الدفاع، إن "الأوامر تأتي من بابا"، مشيرًا للرئيس الروسي  مستخدمًا لقبًا لفلاديمير بوتين يهدف إلى التأكيد على قربه من الرئيس.

وحول الاجتماع، تقول "الغارديان": "الحقيقة إن القرارات التي ستتخذ في ذلك اليوم سوف تخلف تأثيرًا هائلًا على سياسة روسيا الخارجية ومغامراتها العسكرية في الأعوام المقبلة. سيُعرف جيش بريغوجين من المقاتلين المتعاقدين باسم مجموعة فاغنر، وستنفذ عمليات في أوكرانيا وسوريا والعديد من البلدان الأفريقية".

getty

اكتسب بريغوجين سمعة باعتباره القائد الأكثر قسوة بين أولئك الذين قادوا الغزو الروسي المروع. وبدا أنه يؤيد ضمنيًا مقطع فيديو يظهر مقتل أحد المنشقين عن فاغنر، بمطرقة ثقيلة، والذي يبدو أن الأوكرانيين أعادوه في تبادل للأسرى. وقال بريغوجين في بيان في ذلك الوقت: "موت كلب من أجل كلب".

وحتى تمرده، فقد صنع بريغوجين العديد من الأعداء: شركاء تجاريون سابقون يشعرون بالخداع، وجنرالات الجيش الذين انتقدهم باعتبارهم بيروقراطيين ملتزمين بمكاتبهم، وكبار المسؤولين الأمنيين الذين يخشون أن يكون لديه طموحات للاستيلاء على السلطة السياسية. لكنه، احتفظ حتى الآن بتأييد أهم داعم: "الرجل الذي يسميه بابا"، والذي تراجع عن هذا الدعم في يوم التمرد.

لص بلا أخلاق

ولد يفغيني بريغوجين في لينينغراد، التي تعرف باسم سان بطرسبرغ الآن، في عام 1961، بعد تسع سنوات من ميلاد بوتين. توفي والده وهو صغير؛ وقال بريغوجين إن والدته كانت تعمل في المستشفى، حيث تم إرسال بريغوجين الشاب إلى أكاديمية رياضية، حيث غالبًا ما تتضمن الأنشطة اليومية ساعات من التزلج على الثلج، وهي مسيرة لم تستمر طويلًا نتيجة إصابته.

بعد نهاية المدرسة، اقترب من مجموعة من المجرمين الصغار، في إحدى أمسيات شهر آذار/ مارس عام 1980، خلال نهاية حكم ليونيد بريجنيف للاتحاد السوفييتي، غادر بريغوجين البالغ من العمر 18 عامًا وثلاثة من أصدقائه مقهى في سان بطرسبرغ بالقرب من منتصف الليل ورأوا امرأة تسير بمفردها على طول الشارع المظلم.

وتضيف الغارديان: "قام أحد أصدقاء بريغوجين بتشتيت انتباه المرأة بطلب سيجارة. عندما ذهبت لفتح حقيبتها، ظهر بريغوجين خلفها وأمسك برقبتها، وضغط عليها حتى فقدت وعيها. بعد ذلك، خلع صديقه حذائها بينما قام بريغوجين بخلع أقراطها الذهبية ببراعة ووضعها في جيوبها. انطلقت المجموعة الرباعية تاركة المرأة ملقاة على الشارع".

ووجدت المحكمة أن هذه كانت واحدة من عمليات السطو العديدة التي نفذها بريغوجين وأصدقاؤه في سان بطرسبرغ على مدى عدة أشهر. وحُكم عليه بالسجن لمدة 13 عامًا، وقضى بقية العقد خلف القضبان، ولم يفوت وفاة بريجنيف والبريسترويكا التي أسسها ميخائيل غورباتشوف، إذ تم إطلاق سراحه في عام 1990، حيث كان الاتحاد السوفيتي في سكرات الموت، وقرر العودة إلى سان بطرسبرج.

getty

وفي زمن التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية، عاد اللص والمسرح من السجن، إلى مدينة من أجل صنع النقانق.

وعن تلك الفترة، يقول بريغوجين "كنا نجني ألف دولار شهريًا، وهو ما يعادل جبلًا بالروبل". لكنّ، بريجوزين كان يضع نصب عينيه أهدافًا أعلى من الوجبات السريعة، وكان يعرف كيفية إجراء الاتصالات التي يحتاجها، "لقد كان يبحث دائمًا عن أشخاص في أعلى المستويات لتكوين صداقات، لقد كان جيدًا في ذلك"، وفق رجل الأعمال الذي عرفه في التسعينيات.

ولم يمض وقت طويل حتى امتلك بريغوجين حصة في سلسلة من محلات السوبر ماركت، وفي عام 1995 قرر أن الوقت قد حان لفتح مطعم مع شركائه التجاريين. حيث افتتح مطعمه الذي سوق باعتباره المكان الأكثر رقيًا لتناول الطعام في مدينة سان بطرسبورغ، الذي كان من بين زبائنه عمدة سان بطرسبرج أناتولي سوبتشاك، الذي كان يأتي أحيانًا مع نائبه فلاديمير بوتين.

في بداية الألفية، أصبح بوتين رئيساً لروسيا، وخلال السنوات الأولى من حكمه، كان بوتين يحب في كثير من الأحيان مقابلة كبار الشخصيات الأجنبية في مدينته، ​​وكان يأخذهم أحيانًا إلى معطعم بريغوجين، حيث أخذ الرئيس الأمريكي جورج بوش والأمير تشارلز إلى المطعم.

الاستثمار بالحرب

تطور قائد المجموعة العسكرية في عام الطعام، ومنذ عام 2012 فاز بعقود توريد الطعام للمدارس والجيش الروسي.

أمّا لحظة بريغوجين الجدية، كانت التدخل الروسي في أوكرانيا عام 2014، وهو ما كانت تنفيه روسيا في حينه، مما فتح الإمكانية أمام إيجاد الشركات العسكرية، والتدخل من خلالها.

getty

وقال مسؤول سابق بوزارة الدفاع الروسية لـ"الغارديان": "أعتقد إن بريغوجين عرض الأمر على بوتين ووافق، هذه هي الطريقة التي تتم بها الأمور"، ونفى التكهنات بأن فاغنر كانت مشروعًا للاستخبارات العسكرية الروسية منذ البداية، قائلًا: "ربما كان هناك بعض الأشخاص في المخابرات العسكرية الروسية يقدمون المشورة، ولكن في النهاية كان هذا مشروع بريغوجين".

وقال المصدر إن الوزارة زودت بريغوجين بأرض في مولكينو بجنوب روسيا، حيث قامت الشركات المرتبطة ببريغوجين ببناء قاعدة انطلاق للمقاتلين تحت ستار معسكر للأطفال.

جاءت اللحظة الحاسمة بالنسبة لبريغوجين في أواخر عام 2015 عندما قرر بوتين التدخل عسكريًا إلى جانب نظام الأسد من أجل قمع الثورة السورية، حيث  فاز بريغوجين بعقود للأغذية والإمدادات، وأرسل أيضًا قوات فاغنر إلى هناك.

وهناك شاركت فاغنر كقوة قتالية، واتهمت بارتكاب العديد من جرائم الحرب التي وثق بعضها بالفيديو.

وفي عام 2016، ظهر اسم زعيم فاغنر، في تحقيق روبرت مولر عن التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لعام 2016، حيث جاء اسم بريغوجين والشركات المرتبطة به، في لائحة اتهام، تؤكد على أنهم كانوا وراء شبكة من الملفات الشخصية المؤيدة لدونالد ترامب على فيسبوك وتويتر، وعلى ما يبدو جزءًا من سلسلة من الجهود الروسية لتعزيز ترشيح ترامب.

وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على السيد بريجوزين في كانون الأول/ ديسمبر 2016.

بحلول 2018، كانت أنشطة بريغوجين قد امتدت إلى 10 دول على الأقل في أفريقيا، حيث قدم خدمات الأمن والتدريب على الأسلحة وتأمين حقوق التعدين وفرص الأعمال الأخرى.

ويتذكر مارات غابيدولين، قائد فاغنر الذي قضى ثلاثة أشهر في المقر الرئيسي وهو يقدم لبريغوجين تحديثات يومية عن الوضع العسكري في سوريا في نهاية عام 2017، قائلاً: "لقد حكم من خلال الخوف. كانت أجواء المكتب صارمة للغاية، وكان بريغوجين في كثير من الأحيان يتجاوز الحدود مع موظفيه. لقد كان وقحًا للغاية مع موظفيه. كان يسب الناس ويحرجهم في الأماكن العامة".

وتقول صحيفة الغارديان: "على الرغم من أنه لم يكن لديه أي منصب رسمي، إلا أن بريغوجين أصبح حاضرًا بشكل متكرر في الاجتماعات رفيعة المستوى المتعلقة بعقود الدفاع. حتى أنه حضر اجتماعًا ثنائيًا بين بوتين ورئيس مدغشقر، هيري راجاوناريمامبيانينا، في الكرملين في نيسان/ أبريل 2018، وهو اجتماع لم يتم الإعلان عنه ولكن صحيفة نيويورك تايمز نشرته. وبعد فترة وجيزة، وصل مستشارون سياسيون مرتبطون ببريغوجين إلى مدغشقر".

وبعد شهرين فقط من ذلك الاجتماع، سخر بوتين من الادعاءات القائلة بأن بريغوجين كان متورطا في مناورات الظل للسياسة الخارجية نيابة عن الكرملين، قائلًا: "إنه يدير مطعمًا، فهذه وظيفته".

وفي أسلوبه للإجابة عن الأسئلة، قال بوتين، في مرة أخرى، عن بريغوجين، إه يشبه جورج سوروس، موضحًا: "توجد مثل هذه الشخصية في الولايات المتحدة: السيد سوروس، الذي يتدخل في كافة الشؤون حول العالم... ستقول وزارة الخارجية إنه لا علاقة لها بها، بل إنها شأن خاص للسيد سوروس"، مضيفًا: "أنها مسألة خاصة بالنسبة لنا بالنسبة للسيد بريجوزين".

وقالت "الغارديان" حول ذلك، إن بريغوجين كان "أداة للتدخل الروسي في الخارج مع الاحتفاظ بقدرة الإنكار المعقولة".

بعد 8 أعوام، من إنكار صلته بمجموعة فاغنر، ورفع عشرات الدعاوى القضائية، ضد التقارير الإعلامية التي ربطته في فاغنر، اعترف بريغوجين في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي لأول مرة بامتلاك المجموعة العسكرية.

getty

وجاء هذا الاعتراف بعد مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع، سربه فريق بريغوجين على ما يبدو، وأظهره داخل أحد السجون وهو يعرض على السجناء المجتمعين فرصة القتال في أوكرانيا، مقابل حريتهم.

وبعد مشاركته في معارك أوكرانيا، أصدر بريجوزين بشكل متكرر تصريحات تهاجم "الخونة" من قادة المؤسسة العسكرية، الذين اتهمهم بحرمان قواته من الذخيرة عدة مرات، ومن خلال مجموعة من الشتائم، افتتح العديد من مقاطعه المصورة ضد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان، قائلًا: إن هناك الكثر في إدارة بوتين يريدون "الركوع أمام العم سام".

في يوم 23 حزيران/ يونيو الماضي، قرر بريغوجين تحويل قواته من الجبهة إلى الوجهة المعاكسة، حيث اتجه نحو روسيا، في تمرد قصير ضد وزارة الدفاع الروسية، كان من بين مطالبه فيه، محاكمة وزير الدفاع الروسي، واتجه موكب عسكري كبير من قواته، تمكن من إسقاط عدة طائرات حربية روسية، في طريقه إلى روسيا.

انتهى التمرد سريعًا بوساطة من الرئيس البيلاروسي، لكنه جاء بالتزامن مع نهاية العلاقة بين بريغوجين وبوتين، حيث وصف بـ"الخائن" في خطاب الرئيس الروسي، خلال التمرد.

قالت "الغارديان"، إن بريغوجين كان "أداة للتدخل الروسي في الخارج مع الاحتفاظ بقدرة الإنكار المعقولة"

جاءت التسوية التي انتقل فيها بريغوجين إلى بيلاروسيا، قبل أن يكشف عن اجتماع جمعه وبوتين في أعقاب التمرد، فيما ظهر قبل مقتله بيوم، في مقطع مصور يعلن فيه استمرار عمليات التجنيد في مجموعته.

أمّا بقية قصة بريغوجين، تحديدًا قصة نهايته، فهي حلقة مفقودة حتى الآن، لم تتكشف كافة تفاصيلها، مع مرور ساعات معدودة على تحطم الطائرة، التي كانت تحمل قادة مجموعة فاغنر.