09-يوليو-2023
lkj

لوحة إعلانية في سانت بطرسبرغ تروج لمجموعة فاغنر وتدعو للانضمام إليها. (GETTY)

في الوقت الذي انتشرت فيه أنباء سيطرة مرتزقة فاغنر على قاعدة عسكرية تابعة للجيش الروسي جنوبي البلاد نهاية الشهر المنصرم، اقتحم جهاز الأمن الفدرالي أحد مقرات الشركة المملوكة ليفيغني بريغوجين، في سانت بطرسبرغ. 

فقد أشارت تقارير نقلًا عن شهود عيان إلى أنه في الرابع والعشرين من حزيران/ يونيو الماضي، داهم ملثمون المقر وصادروا حواسيب ووثائق خاصة بمجموعة باتريوت، التي تعد الذراع الإعلامية لإمبراطورية بريغوجين، والتي ظلت طوال أعوام تروج له داخل روسيا. كما حجبت السلطات الروسية معظم وسائل الإعلام المرتبطة ببريغوجين.

يقول أحد الموظفين الكبار في محطة ريا فان التابعة لمجموعة باتريوت، "إنهم اقتحموا المقر وحطموا الباب الرئيسي. بدا الأمر كما لو كانوا يقتحمون بيتًا للدعارة لا مقرًا لعمل صحفيين وطنيين."

من ناحيته، يقول أندريه كاربوف، أحد المنتجين في ريا فان، إنه "في الثلاثين من حزيران/ يونيو طُردنا جميعًا من العمل. فقد كتب رئيس التحرير رسالة إلى الجميع قال فيها إن ريا فان أغلقت." ويضيف: "زملائي غاضبون للغاية لأنهم غدوا فجأة من دون عمل وهم لا يعرفون ما عليهم فعله."

يقول أحد الموظفين الكبار في محطة ريا فان التابعة لمجموعة باتريوت، "إنهم اقتحموا المقر وحطموا الباب الرئيسي. بدا الأمر كما لو كانوا يقتحمون بيتًا للدعارة لا مقرًا لعمل صحفيين وطنيين."

طوال العقود الثلاثة الماضية، عكف بريغوجين على بناء إمبراطورية ضخمة شملت وسائل إعلام وشركات مقاولات ولوجستيات وتنقيب وأفلام ومجموعات مسلحة وغيرها، انتشرت نشاطاتها حول العالم واستخدمت من قبل الدولة الروسية ذراعًا يريح الجيش الروسي من عناء ارتكاب أعمال مشبوهة. وقد مثلت مداهمة المقر تلك بداية لحملة واسعة شنها بوتين على مجموعة فاغنر وكل ما يتبع لها لا في داخل روسيا وحسب، بل أينما نشطت المجموعة حول العالم وعلى شبكة الإنترنت أيضًا. 

ملامح الحملة داخل روسيا تجلت في هجمة شرسة شنها التلفزيون الروسي على بريغوجين، إذ وصفه برنامج "ستون دقيقة"، الذي يبث على القناة الروسية الأولى،  بالخائن، وذكر البرنامج أن التحقيق في ما ارتكبه لا يزال على أشده. كما عرض مقطع فيديو يظهر اقتحامًا لمنزله الفارِه، ومصادرة صناديق مليئة بروبلات ذات فئات نقدية عالية، ورزمًا من الدولارات. وأظهر الفيديو أيضًا مشهدًا لطائرة الهليكوبتر الخاصة ببريغوجين، ومخزنًا للأسلحة، ومجموعة من الشعر المستعار، وغرفة مجهزة بكافة المعدات الطبية، ومجموعة تذكارية من المطارق، وهي الأداة التي رشحت تقارير عديدة أشارت إلى أن مرتزقة فاغنر يستخدمونها لمعاقبة المنشقين والفارين بحكم الإعدام، إذ عادة ما يقتلون من خلال تهشيم رؤوسهم.

لا توجد معلومات مؤكدة عن مقدار ثروة بريغوجين، الذي عرف بطباخ بوتين بسبب قربه منه وعمله حرفيًا طباخًا له في فترة ما من حياته، لكن تحقيقًا للفايننشال تايمز كان قد كشف أنه يتلقى راتبًا شهريًا يعادل 259 مليون دولار. لكن الحملة التي يشنها بوتين حاليًا، والتي أعقبت تمرد بريغوجين ومرتزقته، ماضية في السيطرة على الإمبراطورية الضخمة، إذ كان بوتين قد لمّح إلى أنه سيجري التحقيق في مصادر أموال بريغوجين، وأضاف بالقول: "آمل أن أحدًا لم يسرق شيئًا، أو أنه لم يسرق كثيرًا، لكننا سننظر في ذلك."

قيود على فاغنر في مناطق سيطرة النظام السوري

تؤكد تقارير عديدة أن معظم جهود النظام الروسي كانت منصبة على ضبط وجود فاغنر في سوريا بالذات، وهي التي تعد بمثابة محطة انطلاق شركة المرتزقة، إذ تشير رويترز نقلًا عن مصادر من بينها مسؤولون أمنيون تابعون للنظام السوري، إلى أن النظام السوري وقوات تابعة للجيش السوري في مناطق النظام اتخذوا إجراءات واسعة بحق مرتزقة فاغنر في البلاد بمجرد أن خرجت الأنباء عن تمرد رئيسها. 

فقد باشرت القوات بحظر بعض أرقام الهواتف، واستدعاء أكثر من عشرة من قادة المجموعة إلى قاعدة حميميم العسكرية. كما اعتقل مرتزقة الميليشيا في كل من دمشق ودير الزور والسويداء و طلب منهم التوقيع على عقود جديدة مع وزارة الدفاع الروسية أو مغادرة الأراضي السورية فورًا، فيما لا تزال إجراءات أمنية مشددة تفرض في القواعد العسكرية الروسية في البلاد، خاصة تلك الموجودة في المناطق الغنية بالنفط.

ljh
جنود روس وسوريون في دمشق. (رويترز)

في السادس والعشرين من حزيران/ يونيو الماضي، كان نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي فيرشينين، قد زار دمشق في زيارة مفاجئة وأمر النظام السوري بعدم السماح لمرتزقة فاغنر بمغادرة البلاد، كما صرح رأس النظام، بشار الأسد، بأنه يتم التشاور حول وجود فاغنر في البلاد في ضوء ما حدث، على حد قوله.

الكرملين هدف بالحملة ضد فاغنر في سوريا إلى تعزيز نفوذ الشركة في سوريا ولكن تحت قيادة جديدة، وإلى إيصال رسالة إلى الخارج مفادها أن الرئيس الروسي لا يزال ممسكًا بزمام الأمور ويمكن الاعتماد على روسيا لدعم حلفائها. وتشير تحليلات إلى أن قصف سوق في إدلب من قبل الجيش الروسي بعد يوم واحد فقط  من توسط الرئيس البيلاروسي بين بريغوجين وبوتن، وهو القصف الذي أسفر عن استشهاد تسعة أشخاص،  يأتي في إطار التأكيد الروسي على أن دوره في سوريا لا يزال مهمًا لوجود النظام السوري والقضاء على آخر معاقل الثوار في الشمال الغربي للبلاد.

ويشار إلى أنه لم تكن هناك علامات واضحة تشير إلى تمرد وشيك في القواعد الروسية في سوريا أو بالقرب منها، وهو ما يعكس أن بريغوجين إما أنه لم يفكر أصلًا في كيفية التعامل مع التبعات الدولية لتمرده، أو أن كل شيء كان مخططًا بالكامل. وأيًا كان السبب، فإنه يعتقد أن عمليات فاغنر ستستمر ولكن ربما تحت اسم وقيادة مختلفين.

تنقل فورين بوليسي عن دينيس ميرغورود، الخبير لدى المجلس الروسي للشؤون الدولية، القول إنه في حين أنه من المبكر جدًا الوصول إلى استنتاجات واضحة حول مستقبل فاغنر، فإنه “واضح أن هذه الشبكة التي اكتسبت قدرًا مهمًا من الخبرة في تقديم الخدمات الأمنية في مختلف البلدان والمناطق في جميع أنحاء العالم، لا يمكن إلغاؤها وإزالتها من نقاط ساخنة عديدة من بينها سوريا وليبيا والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي."

بدأت شركة فاغنر عملها في الأراضي السورية بهدف القضاء على الثورة ودعم وجود نظام بشار الأسد عام 2015، وهي لا تزال تعمل هناك إلى الآن وإن كان ذلك بأعداد قليلة تتراوح بين 250 إلى 450 فرد، أي ما يشكل عشر القوات الروسية في البلاد.

وشأنها شأن الجيش الروسي في سوريا، فإن لفاغنر شركات عديدة تجني أرباحًا طائلة من وجودها في سوريا، خاصة جراء بيع النفط. ففي عام 2017 أعلن عن صفقة مدتها خمس سنوات بين شركة إيفرو بوليس الوهمية، المملوكة لفاغنر، تقضي بحصول الشركة على 25% من أرباح حقول نفطية عديدة. ولكن تقارير تنقل عن شهود أن فاغنر تتشارك حراسة المنشآت النفطية مع الجيش. 

في إفريقيا صفقات تتم كأن لم يكن شيء

التحليلات التي تنبأت بأن فاغنر أهم لروسيا من أن تفكك أو تلغى، تؤكدها أخبار تواترت من مناطق انتشار ميليشياتها في القارة الإفريقية. فبعد أربعة أيام من تمرد فاغنر، زار وفد روسي مدينة بنغازي للقاء باللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرقي البلاد بدعم من ميليشيات فاغنر ومرتزقة من دول إفريقية عديدة. 

الوفد أكد لحفتر أن مرتزقة فاغنر الذين يربو عددهم عن 2000 سيبقون في البلاد وسيمارسون نشاطاتهم كما المعتاد، وأنه "لن تكون هناك أي مشكلة. قد تكون هنالك بعض التغييرات في المستويات العليا ولكن آلية العمل ستظل ذاتها: الأشخاص الذين يعملون في الميدان، ومصادر الأموال في دبي، والعقود، والمصادر المخصصة لليبيا"، وذلك وفقًا لما نقلت الغارديان عن مسؤول ليبي سابق مطلع على الزيارة اطلاعًا مباشرًا. 

يشار إلى أن ميليشيات فاغنر العاملة في ليبيا لم تمارس أي نشاط غير معتاد بعيد تمرد بريغوجين. والأمر كذلك في دول إفريقية عديدة تنشط فيها الشركة. وقد وعد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مقابلة له على تلفزيون روسيا اليوم، أن ما وصفهم بالمدربين والمتعاقدين الخاصين مع الجيش سيمارسون أعمالهم وسيظلون في كل من جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي. 

منذ وصولها لإفريقيا الوسطى عام 2018 بهدف دعم نظام الرئيس فوستان آرشانج تواديرا، ضد متمردين، أطلقت فاغنر أنشطتها لتستحوذ على كل ما امتدت إليه أذرعها، فبرزت معظم نشاطاتها في مجال التعدين، كما أنشأت مصانع لتصنيع المشروبات الكحولية، وحصلت على امتيازات عديدة للاستثمار في الغابات المطيرة جنوبي البلاد. أما أكبر مشاريعها في جمهورية إفريقيا الوسطى فتمثل في أحد أهم مناجم الذهب، وهو منجم نداسيما. وفي العام الماضي، شن مسلحو فاغنر هجمات على مناجم ذهب وألماس عديدة في البلاد، وتسببوا بمقتل العشرات، بهدف الاستحواذ عليها. 

;kj
إعلانات في بانغي، عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى، تروج للعلاقات بين روسيا والبلاد. (سي إن إن)

أما في السودان، التي تعد ممرًا تتخذه فاغنر لتهريب الذهب، فللشركة علاقات وثيقة بقوات التدخل السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي يخوض حاليًا حربًا ضروسًا ضد الجيش السوداني. إذ إنه حتى بدء المعارك بين طرفي الصراع في السودان، ظلت فاغنر تدير مكتبًا بالقرب من مطار الخرطوم بهدف تهريب سبائك المعادن الثمينة من قاعدة جوية قريبة إلى كل من أبوظبي وموسكو لتباع من هناك في الأسواق العالمية. ولكن الاقتتال الحالي في السودان قلص من عمليات التهريب لكنه لم يوقفها تمامًا، إذ تشير تقارير إلى أنها لازالت مستمرة بمساعدة من قبل قوات التدخل السريع الذين ربما تزودهم فاغنر بالسلاح أيضًا.

وفي مالي، التي تشهد أقل نشاطات فاغنر في القارة الإفريقية إلا أن أرباحها تقدر بأكثر من 200 مليون دولار منذ أواخر عام 2021، فتشير تقارير إلى أن الوساطات التي أجرتها فاغنر لتسهيل وتسريع خروج قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من البلاد، والتي تنتشر في مالي منذ حوالي عقد من الزمن، تجري بصورة طبيعية، وأن تبديلًا روتينيًا بين موظفي فاغنر جرى فقط بعد تمرد بريغوجين. كما أن المرتزقة التابعين للشركة واصلوا عملياتهم المشتركة مع القوات المالية في وسط البلاد وشمالها من دون أي مشاكل تذكر.

ذباب بريغوجين الإلكتروني تحت سيطرة الكرملين

بالعودة إلى الماكينة الإعلامية الهائلة التي يمتلكها بريغوجين والتي تشكل المواقع الإلكترونية والنشاط على مواقع التواصل الاجتماعي جزءًا مهمًا منها، فهنالك ما يشير إلى أن السلطات الروسية بدأت بالسيطرة على وكالة بحوث الإنترنت سيئة السمعة والتابعة لبريغوجين، وهي التي تعمل بشكل أساسي على إنشاء حسابات وهمية اتهمت بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومحاولة التأثير على توجهات الناخبين الأمريكيين.

لوحظ أن عددًا من الحسابات الوهمية التابعة للوكالة بدأت بشن هجمة شرسة على بريغوجين من خلال تكرار مهاجمته في الأقسام الخاصة بالتعليقات في وسائل الإعلام الإلكترونية. 

مجموعة "مصيدة بريغوجين" التي تراقب الحسابات الوهمية المحسوبة على بريغوجين، ذكرت أن آلاف الحسابات على منصة فكونتاكتي التي يصطلح على لفظها اختصارًا بـ "في كي "VK، وهي منصة روسية للتواصل الاجتماعي، غمرت الموقع بتعليقات سلبية عن أمير الحرب "الخائن"، وذلك بعد أن كانت تمدحه طوال الفترة الماضية.

منتا

يقول ناطق باسم المجموعة إنه "قبل شهر أيار/ مايو، كان بريغوجين يسيطر على 15,000 حساب على موقع في كي وكانت دائمة المديح له. ولكن أغلبها الآن تعمل ضده. من الواضح أن الحكومة أصبحت تسيطر عليها."

كما يقول دارين لينفيل، الأستاذ المشارك في مجال الاتصالات في جامعة كليمسون والذي عكف على دراسة وكالة بحوث الإنترنت منذ عام 2018، إن بحوثه توصلت إلى وجود أكثر من 180 حساب وهمي تابع للوكالة ينشط على موقع تويتر وقد انقلبت ضده بعد تمرده. ويضيف أنه "بمجرد بدء عملية التمرد، ازداد مستوى نشاط الحسابات الوهمية وشنت هجمات حادة ضد بريغوجين."

يقول لينفيل إن "بريغوجين اعتاش على نشاط الذباب الإلكتروني، والآن سيموت على أيدي الذباب الإلكتروني أيضًا."