24-أكتوبر-2021

صندوق بريد يحمل العلم اللبناني في مدينة جبيل (Getty)

توجهان يسودان في لبنان. أولهما يحسب أن كل مصائب هذه البلاد وأسباب تخلفها مرده المسعى الأمريكي "الاستعماري"، الذي يحاول ويسعى لسرقة ثروات هذه البلاد واستغلال مواردها أبشع استغلال. وثانيهما يفترض أن مقاومة الإمبريالية الأمريكية، دفع واشنطن وحلفاءها لفرض حصار على المنطقة والعزوف عن تقديم المساعدات لها، ما جعلها تغرق في ديونها وأزماتها وانهياراتها المتتابعة.

ينسب قادة حزب الله إلى الحصار الأمريكي مصائب تحل باللبنانيين من كل صوب وحدب

والتوجهان لا يختلفان في الجوهر. فكلاهما يحسب أن التقدم والتأخر في أي بلد من بلاد العالم مرهون بنظرة أمريكا إليه، وسلوكها حياله. والتوجهان يحتجان بأمريكا لتبرير تقصيرهما في معالجة المسائل الملحة. فينسب قادة حزب الله -وهم في مقدمة من يتبنون التوجه الأول- إلى الحصار الأمريكي مصائب تحل باللبنانيين من كل صوب وحدب. ويعتقد معارضو حزب الله وحلفائه، من قوى طائفية وأخرى علمانية "مستجدة" أن سياسات حزب الله المعادية لأمريكا وبعض العرب أدت إلى تمنع الأمريكيين ودول الخليج عن مساعدة لبنان وإنهاضه من عثرته. والطرفان يتفقان في هذا المقام، على واقعة أن نهوض لبنان واستقراره ليس شأنًا يخص اللبنانيين. وينظرون إلى أنفسهم وإلى من يمثلون من الشعب اللبناني بوصفه ووصفهم غير راشدين، ويحتاجون رعاية دائمة من الآخرين البالغين. على غرار ما يكون الطفل عاجزًا عن تدبير شؤونه بنفسه، ومحتاجًا بشدة إلى رعاية والديه لتأمين حاجياته، وهو في تطلبه لهذه الرعاية يسلك واحدًا من مسلكين: إما الطاعة التامة لتعليمات الوالدين وإرشاداتهما وإما التمرد عليها ومحاولة إقلاق راحتهما سعيًا منه لأن يفرض عليهما تلبية حاجاته.

اقرأ/ي أيضًا: تشرين الآخر

لا خلاف في أن ما تقدم وصفه لا يقترب من هموم الشؤون العامة من أي جهة أو جانب. وربما يكون أقل ما يقال فيها أنها سياسات عفت عليها أزمان كثيرة. فربما كان يمكن الادعاء قبل نصف قرن مثلًا، إن حاجة أمريكا للثروات الوطنية قائمة، وإن ساستها يسعون لاستغلال هذه الثروات. ومنذ نصف قرن أيضًا كان يمكن الادعاء أن دول الخليج مستعدة لمساعدة لبنان اقتصاديًا، على خلفية الأفكار التي كانت سائدة في المنطقة حول وحدة البلاد العربية، ومصيرها المشترك. وعلى خلفية محاولة نقل البلد من محور الخصم الإقليمي إلى محور الحليف. لكن الناظر إلى عالم اليوم، ودول الخليج في قلب العالم وليست على هامشه كما هي حال لبنان وبعض الدول الأخرى في المنطقة، يكتشف أن السعي المحموم في هذه الدول يتركز أولًا وأساسًا على السباق المضني للبقاء قيد التأثير في الاقتصاد والاجتماع والسمعة العالمية. فيما تبدو الولايات المتحدة مستغنية تمامًا عن الدول التي لم تعرف القيام بأدوار مماثلة. واقتصر تاريخها على تغذية الأيديولوجيات الغابرة.

اللبنانيون أسرى أوهام لا مكان لها في الواقع. ولأنها أوهام خيالية، وهم يصدقون وجودها حقًا، فإنهم على الأرجح سيقتلتون في ما بينهم

اقرأ/ي أيضًا: مكابدة المنتصرين على الإمبراطورية الأمريكية

لا حاجة للولايات المتحدة تدعوها للاهتمام بلبنان أو غيره من الدول المتخلفة. أكثر ما يمكن أن يأمله اللبنانيون على هذا الصعيد، هو مساعدة بعض اللبنانيين الذين هدهم الجوع وغلبتهم الفاقة، لكي يستمروا على قيد الحياة. ولا تستطيع دول الخليج "الغنية" أن تُنهض لبنان من عثرته، في وقت تسابق فيه الزمن لكي تحافظ على مراكزها الاقتصادية والسياسية في قاطرة العالم التي تسير بسرعة تفوق قدرة السياسيين على التأقلم في معظم الأحيان.

اللبنانيون أسرى أوهام لا مكان لها في الواقع. ولأنها أوهام خيالية، وهم يصدقون وجودها حقًا، فإنهم على الأرجح سيقتلتون في ما بينهم بكل العنف الذي يمكننا تخيله، جريًا وراء أوهامهم. وحين يكتشفون أن كل ما سعوا إليه أو تجنبوه لم يكن إلا سرابًا، سيكون الوقت بعدها متأخرًا كثيرًا لإعادة بناء وطن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لبنان الذي يكاد يغيب عن مداركنا

لبنان: رثاء النفس