09-مارس-2017

منازلنا التي بقيت في الذاكرة (ماهر عطار/Sygma)

ثلاثة رجال وكنبة قديمة وقفوا في منتصف الدرج الضيق المؤدي إلى شقتي الصغيرة، عاجزين بكل الطرق عن التقدم درجة واحدة حتى فتحت إحدى الجارات بابها وقالت لنا وقد بدت غاضبة من الضجة التي أحدثناها: "لا يمكن أن تصعدوا بها إلى الأعلى إنها كبيرة"، لنعود بالكنبة إلى بيت صديقتي الفرنسية التي ضحكت كثيرًا عندما عبرت لها عن غضبي من هذه المنازل الفرنسية الصغيرة، قبل أن تسألني ألا تشبه منازلكم؟.

ليست كل منازلنا كبيرة ربما كما خيل لي، لكنها أيضًا ليست صغيرة تفصل بين شققها أو غرفها ألواح فتسمع رشفة قهوة جارك صباحًا

ليست كل منازلنا كبيرة ربما كما خيل لي، لكنها أيضًا ليست صغيرة تفصل بين شققها أو غرفها ألواح من الإسمنت والجص فتسمع رشفة قهوة جارك صباحًا، وليست ضخمة كتلك المنازل التي تتوسط التلال والبساتين على امتداد مساحات خضراء لا تنتهي.

اقرأ/ي أيضًا: السكن في بيروت.. طوبى للتشرد!

أذكر تلك الفرحة على وجه جارتنا في دمشق التي بدت سعيدة جدًا بعد تمكن ابنها من سقف آخر غرفة من طابقه المخالف في إحدى الأحياء العشوائية في دمشق، قبل أن يتمكن أخوه بعدها بأشهر من بناء غرفة أخرى فوق طابق أخيه، الغرفة الصغيرة تلك التي كانت تبدو وكأنها منارة تشرف على بقية الأسطح المجاورة، والتي كانت بدورها تنتظر لتعلو طابقًا تلو الآخر، وتتحول إلى كتل إسمنتية تكبر وتشكل سورًا آخر يحيط بالمدينة المنهكة، هي تلك العشوائيات التي تشكلها منازلنا، والتي لا تشبه شيئًا هنا.

أصوات مولدات الماء في مدخل البناء، روائح الطهي المختلطة، الدراجات وعربات الأطفال في مدخل البناء، أسلاك الكهرباء والهاتف وغيرها المتداخلة فيما بينها كشبكة العنكبوت، الرطوبة العالية التي تفتك بطلاء جدران درج البناء، الأحذية المتراكمة عند أبواب الشقق. تفاصيل قد تتبدل وتتغير ربما قبل أيام قليلة من الأعياد لتبدأ جولة تنظيف ماراثونية قد تشمل معظم منازل المدينة، صغيرها وكبيرها غنيها وفقيرها، في طقس شبه سنوي يغيب عنه الرجال غالبًا، في الوقت الذي قد تحضر فيه الصبايا من الأقارب للمساعدة في ورشة قد تطول اليوم كله تشمل الغسيل والتنظيف والترتيب وغير ذلك.

حتى تبدو البيوت بأبهى حللها مع أول أيام العيد قبل أن يحل الصيف وتأتي جولة أخرى تشمل غسيل السجاد ونشره على الأسطح والشرفات وفرد الملابس الصيفية وغسل وترتيب الملابس الشتوية، وغيرها من الأعمال التي تقوم بها معظم المنازل على مدار العام.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة السكن في المغرب.. البحث عن "قبر الحياة"

في مدينة فرنسية قريبة مني تعيش سيدة سورية وأسرتها، شكت لي بحسرة عدم قدرتها على شطف منزلها لأن أرضه من الخشب وخال من البلاليع، الأمر الذي أدركته أخيرًا وتذكرت جدتي التي لا تزال تشكي حظها غاضبة من "البلاط"، الذي ركب بلاط أرض بيتها قبل 25 سنة ولم يكن بالمهارة الكافية لجعل الماء يتجمع لوحده في زاوية الصالون بدلًا من البحيرة التي كانت تتشكل عند كل مرة تقوم فيها بتنظيف المنزل.

تلك الطقوس التي كانت تضيف بعدًا آخر في العلاقة مع المكان الذي نعيش فيه، وفي الوقت الذي أبدو فيه عاجزة هنا عن تنظيف الجدران كما اعتدت أو أن أتحكم بدرجة حرارة التدفئة المركزية للبناء بعد أن كنت أقضي وقتًا أراقب فيه قطرات المازوت، التي تنزل من تلك الكرة الحديدية التي كانت تعلو مدفئة ما تتوسط صالون منزلنا هناك.

كل تلك التفاصيل لم أروِها لصديقتي الفرنسية فأنا أعرف سلفًا أنني سأكون عاجزة عن الوصف غالبًا وأنه من الصعب أن أفسر كل تلك النوستالجيا الطارئة حينها، ليكون جوابي لها بعد دقائق من الصمت: "كلا لا تشبه منازلنا".

اقرأ/ي أيضًا:

في العمارة الجزائرية: حياة مفخخة

المدن الجامعية في سوريا..أرهقتها الحرب