24-نوفمبر-2016

نساء في إحدى القرى اللبنانية يحضرن مونتهن في جلسة انتظار قرب الموقد (مروان نعماني/ أ.ف.ب)

لا تزال عادة تصنيع واقتناء المؤونة الشتوية، تعدّ من التراث القروي اللبناني الفلكلوري، ولا تزال متوارثة لدى الكثير من القرويين. وعلى الرغم من "عصرنة" السلسلة الغذائية، وتحوّل سيدات اليوم إلى الاستهلاك السريع من المحلات التجارية والأصناف المعلبة، إلا أن "موضة" "المونة" لم تصبح آفلة. فتزدحم منازل اللبنانيين، الذين يقطنون في البلدات والقرى والبلدات الجنوبيّة والبقاعية والشمالية والجبلية النّائية والبعيدة عن مراكز المدن، بحفظ ما يحلو لھم من المأكولات الشھية المصنوعة يدويًا، لتناولھا في أيام الشتاء والبرد.

"المونة" اللبنانية عادة متوارثة لدى القرويين اللبنانيين

أم أحمد، واحدة من سيدات قرى جبل لبنان، لا تزال تحافظ على عادتها في إعداد المونة. فهي تعمل على تحضيرها منذ شهر أيلول/سبتمبر ولم تنته منها إلى اليوم، مع بدء موسم الزيتون. فهي توزع في رأسها المهام على جدول زمني متقارب تنجز فيه تحضير "المونة"، قبل تساقط المطر الذي تأخّر هذا العام أيضًا. 

تجلس الأرض وتسند ظهرًا مقوّسًا إلى الهواء. تثبّته بساعدٍ ينزل شبه مستقيم على ركبتها. تميل لتنهال على الحبات الخضراء والسوداء بقطعة حجارة ملساء متوسطة الحجم تسمى "زلطة". ثم تعيد تشكيل عمودها الفقري بشكل سليم. رافعةً رأسها، تراقب الدجاجات التي تتقافز على مسافة قريبة وتلتقط أنفاسها ماسحةً بباطن كفها بعض الإجهاد عن وجهها، ثم تتابع "الرص".

اقرأ/ي أيضًا: "المونة" السورية.. تنعش حياة اللاجئين في تركيا

الجرار البلاستيكية، التي حلّت مكان الفخار، تنتظر في الخارج، فأم أحمد كانت وزّعتها على السور الحجري في مواجهة الشمس لتجفّ. هي لن تملأها بالخيرات لـ"تكبس" الزيتون فيها فيكون مونتها لهذا الشتاء قبل يومين على الأقل. تترك الحبات في كيس كبير لتفقد بعضًا من سائلها، وبعدها تضيف إليها الملح الخشن ثم تنقلها بكفيها من الوعاء الكبير إلى الجرار وتسقيها زيتًا وفيرًا يغمرها، لتحكم بعد ذلك إغلاق كل جرة وترفعها بفرح إلى حافة السقيفة في المطبخ.

حباتٌ أخرى (كانت انتقتها المرأة الستينية بعناية أكبر من بين كل ما جمعته عن الشجرات التي تملأ حديقتها) تنزل في "مرطبان" شفاف على مهل. وقد امتلأ جوفها بالحرّ وتضخمت. ثم تصبح أكثر لمعانًا من داخل الزجاج وقد أضيف إليها الزيت وتزينت ببعض قطع الليمون الحامض. أم أحمد التي تهوى النظر طويلًا إلى ما تنجزه يداها، تحفظ مراطبين الزيتون المحشو على الرفّ أمام ناظريها. تضعها إلى يمين مراطبين المكدوس وإلى شمال مراطبين الخُضَر، التي غمرتها بالخل، لتعيش طويلًا وتكتسب طعمًا حامضًا.

في الطبقات السفلى من خزانة المطبخ الضخمة تخبئ أم أحمد عُلبًا تحوي برغلًا كانت طحنته، وكشكًا كانت تركته لأيام عرضةً للشمس ليجف، ولوزًا تيبّس "على أمّه"، فاكتسبت قشرته لونًا بنيًا شهي المنظر.

"كنوزٌ" أخرى ستكون حاضرةً لإعدادها في أيام الشتاء، وتختبئ بدورها خلف الستارة الخضراء التي تغطي بعض طبقات الخزانة. كانت ابتاعتها المرأة من الدكان، كلّما "تناقصت" صحتها كلّما تراجعت قدرتها على الإنتاج، وهي اقتنعت مع الوقت أن بإمكانها شراء بعض الفواكه المجففة والخضار اليابسة كالفاصولياء والملوخية والبامياء أو المجلّدة كالبازيلاء من أقرب دكان، لكنها لم تبدّد يومًا قناعتها أن الطعم سيختلف لا محالة.

"كل شي بلدي غير"، تقول أم احمد، وهي تحاول إنهاء ما بين يديها، وتلفت إلى أن "الصناعة البيتية تضمن "ثلاثة بواحد": الجودة والنظافة والطعم الألذ". لم تفكر السيدة يومًا بمضاعفة مراطبينها لتبيع بعضًا منها فتتكسّب، لكنها لا تتردد في تقديم واحد أو اثنين من كل نوع عربون محبةٍ للأقارب والجيران.

اقرأ/ي أيضًا: "عيد الأم".. تغليف الذكورية بالهدايا

تلفّ المرطبان بقطعة قماش أو تحمله في كيس وتفاجئ به من تحبّ عند عيادة مريض أو التهنئة بخبر مفرح. في الزيارات النادرة التي تخرج بها أم أحمد من حارتها، تحمل دومًا ما تقدّمه لصاحبة المنزل بمناسبة وغير مناسبة، فهل يعقل أن تدخل البيت "فارغة اليدين؟".

أبو أحمد، زوجها، الذي ينكبّ في موسم الزيت والزيتون على صناعة الصابون بما تبقى من زيوت قديمة، يصبّ في القوالب الخشبية مزيجًا يكفي عند جفافه وتقطيعه حاجة معظم أبناء البلدة. وهم يحضرون إلى منزله على مدار أيام العام وفصوله لشراء القطع البيضاء التي لا يزالون يستخدمونها في غسيل الملابس والاستحمام "في زمن مساحيق الغسيل والشامبو".

الرجل المسنّ، الذي تفوح منه رائحة الصابون كيفما تحرّك وأينما اتجه، يقضي ساعات طويلة في تحريك خلطته التي لا يتقنها في هذه الصناعة سواه. يقضي ساعات أطول بانتظار جماد المادة البيضاء بين الألواح الخشبية. ليقوم بعد ذلك بتحويلها بقطّاعته المسنّنة إلى مكعّبات ملساء يرتبّها في خطوط أفقية، ترتفع فوق بعضها البعض لتبني في القبو ذي السقف المنتفخ جدارًا من الصابون، سيتآكل تباعًا كلّما باع كيلو أو كيلويين من البضاعة.

بين الحين والآخر، تمدّ أم أحمد أبا أحمد، في جلوسه أمام الموقد الخارجي والقدر الكبير الذي يغلي فيه المواد، بكوب قهوة وصحن سكبت فيه ما كانت حضرته من "تين معقّد"، مغطى بقطع الجوز المقرمشة. وفي وقت لاحق تُسعفه وقد أنهكه التعب بكوب من عصير التوت المنعش أو مشروب "البوصفير" اللذيذ، وإن فات على تحضيرها لمادته الكثيفة بضعة أشهر.

تنقسم "المونة" اللبنانية إلى 5 مجموعات: اللحوم، الأجبان والألبان، المخللات، والمقطرات

"فكلّما تعتّق باتت حلاوتها أكبر"، على ما تقول. ففي بلدتهما الشوفية (جبل لبنان)، يتحوّل نموذج أم أحمد وأبي أحمد مع مرور السنوات من حالة مميّزة إلى استثنائية ففريدة. الآخرون في بيوتهم يواكبون عصر السرعة بالمنتجات السريعة، فاقدة الشكل والمضمون، الفائدة والمذاق. ويفضّلون تلوين موائدهم بشيء من الصناعات البيتية البهيّة بما يشترونه من المعارض التراثية بأسعار باهظة أو من البيوت القديمة والقليلة، التي تضمن (أقلّه حتى الساعة) أطعمةً لذيذة وصحيّة بمقابل زهيد وابتسامة.

يشار إلى أن "المونة" اللبنانية تنقسم إلى خمس مجموعات رئيسية هي: اللحوم، الألبان والأجبان، الفواكه، الخضراوات، والحبوب: مثل الزعتر، السماق، الفريك، الكمونة، البرغل، مربيات المشمش، التين، واليقطين، إضافة إلى المقطرات مثل قصعين، إكليل الجبل، شومر، زعتر وزعرور، ومخللات: مثل المكدوس، الباذنجان، ورق العنب، والشرابات.

اقرأ/ي أيضًا:

ذاكرة طين بقاعيّ

الريف اللبناني..أين التكنولوجيا؟