23-يونيو-2017

الحدباء، خسارة لإرث ثقافي لن يُعوض (أحمد غرابلي/أ.ف.ب)

في اليوم الرابع من شهر تموز/يوليو 2014، صعد أبوبكر البغدادي، قائد ما يعرف بـ"تنظيم الدولة الإسلامية"، إلى منبر مسجد النوري، والمعروف أيضًا بالجامع الكبير، ونصّب نفسه خليفة للمسلمين، ومن هنا وُلدت أهمية جديدة للجامع الكبير، كمقر لخلافة البغدادي ومكان تمركز قادة التنظيم بالموصل، شمال العراق، بجانب أهميته التاريخية والثقافية.

لمأذنة جامع النوري بالموصل قيمة تراثية وتاريخية كبيرة ولها في قلوب العراقيين مكانة خاصة، بحيث مثل سقوطها صدمة لدى الكثير منهم

الجامع النوري بالموصل.. كالأزهر بالقاهرة

يُنسب اسم جامع النوري إلى مشيده، الملك أبو القاسم نور الدين زنكي، وذلك في القرن السادس الهجري، 1172م ، ومن هذا التاريخ يكتسب المسجد قيمته التاريخية كثاني أقدم مسجد يُبنى في الموصل بعد المسجد الأموي، وتميز كذلك بمنارته ومئذنته المحدبة، وهي البناية الوحيدة من الجامع التي لم تتأثر بعوامل الزمن أو الغزاة ولم تتهدم أو تتدمر، ظلت مئذنة المسجد المحدبة شامخة تأبى السقوط، تدمرت الأبنية الأساسية للمسجد كلها إلا تلك، لم تتأثر إلا بالاستمالة ناحية الشرق قليلاً، وكأن يدًا إلهية تجذبها بخفة نحو الشرق كي تعلن انتماءها إليه، كان هذا حتى يوم الأربعاء الماضي، الحادي والعشرين من حزيران/ يونيو 2017، حيث سقطت المئذنة ودُمّرت واستراحت أخيرًا بعد أن صمدت في مكانها قرابة تسعة قرون.

لمنارة الحدباء قيمة تراثية وتاريخية كبيرة، حيث أنها أعلى منارة طولاً في العراق، كما أنها البناية الأصلية الوحيدة التي تبقت من أبنية الجامع النوري، ولها في قلوب العراقيين مكانة خاصة، فللمساجد عامة قدسية "بيت الله" لدى المسلمين، فما بالك بإضفاء القيمة التاريخية والهوية الثقافية على "بيت الله".

ينظر أهل الموصل إلى مئذنة الحدباء كجزء أصيل من هويتهم الثقافية وكدليل ومرشد على تاريخ المكان، فكان التدمير بمثابة الصدمة على قلوبهم، فليس غريبًا أن نرى رجلاً يبكي بحرقة على مبنى المئذنة، تخيل معي أن يستيقظ المصريون يومًا على خبر تدمير الجامع الأزهر أو مسجد الحاكم بأمر الله!

اقرأ/ي أيضًا: هل يمهد هولاند لـ"امتلاك" آثار العراق وسوريا؟

من المسؤول عن تدميرمئذنة الحدباء؟

تتباين ردود الفعل حول المتسبب في تدمير منارة الحدباء، وتتبادل كل من داعش والجيش العراقي بدعم من قوات التحالف الدولي الاتهامات

كان الجيش العراقي بدعم من قوات التحالف الدولي، في أواخر العام الماضي، قد بدأ في شن هجمات عسكرية شرسة على قوات داعش محاولاً طردها من الموصل، ونجح في السيطرة على المنطقة الشرقية، ويحاول منذ شباط/ فبراير الماضي مد نفوذه وسيطرته على المنطقة الغربية بما فيها الجامع الكبير، مقر خلافة البغدادي، ثم في مشهد مفاجئ للجميع سقط مقر الخلافة المزعومة والمئذنة التاريخية للموصل، دون أي دليل أو إشارة عن هوية الفاعل، لتبدأ الأطراف المتصارعة في تبادل الاتهامات ويبدو أن مقطع الفيديو الوحيد الذي نُشر حتى الآن قد صُوّر من مسافة بعيدة ولا يُظهر بوضوح كيف دُمّر المبنى، ولا يمكن التأكد من صحة المقطع.

صرّح الفريق عبدالغني الأسدي، قائد قوات مكافحة الإرهاب بالعراق، أن "الجيش العراقي كان على مشارف الوصول إلى الجامع الكبير ووصل إلى بُعد أمتار قليلة قبل أن تُفجّر قوات داعش المسجد في عمل خسيس ينم عن يأسهم في التمسك بمقر خلافتهم، وخيبة أملهم وهزيمتهم الوشيكة، وأن الجيش العراقي مستمر في مقاومتهم وقتالهم".

كما أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، أن "تدمير داعش لمقر خلافتهم، بمثابة إعلان رسمي لهزيمتهم في العراق". ونفت داعش، الاتهامات الموجهة إليها بتدميرها لمئذنة الحدباء، وألقت بالتهمة ناحية التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عن طريق مقطع مرئي أذاعته عبر وكالة أعماق الإخبارية التابعة للتنظيم، ذكرت فيه أن المئذنة سقطت بفعل قصف أمريكي، وأن هناك بقايا صاروخ يشهد أن المئذنة قُصفت من الجو.

بينما أكّد المتحدث باسم التحالف الدولي "أن التحالف لم ينفذ أي ضربات في المنطقة التي يوجد بها المسجد الكبير بالموصل"، وعلّق الجنرال الأمريكي جوزيف مارتن أن "تدمير المسجد بمثابة جريمة ضد الشعب العراقي بأسره" وحمّل داعش مسؤولية التدمير.

اقرأ/ي أيضًا: مليشيات القتل الطائفي.. تقسيم "داعشي" للعراق

مأساة ثقافية وإنسانية!

أعلنت إيرينا بروكوفا، الأمين العام لمنظمة اليونسكو، أن "تدمير الجامع النوري يمثل مأساة ثقافية وإنسانية، وأن حماية التراث لا يمكن فصلها عن حماية الأرواح البشرية"، وأضافت أن "منارة الحدباء ومسجد النوري كانا من أبرز المواقع في المدينة ويعتبران رمزًا للهوية والصمود والانتماء، وأن هذا التدمير يعمّق جراح المجتمع العراقي الذي يعاني من مأساة إنسانية لم يسبق لها مثيل وأعربت عن تضامن اليونسكو مع شعب العراق، واستعداد المنظمة لدعم التراث الثقافي وإعادة تأهيله، كلما أمكن ذلك".

وهذه الرؤية الضبابية حول هوية الفاعل امتدت أيضًا على مواقع التواصل الاجتماعي، فتوافق البعض مع سيناريو الجيش العراقي بأن داعش هي المسؤولة عن التفجير، بينما تعجب البعض الآخر متسائلاً لماذا يدمر داعش المسجد النوري والمنارة الحدباء الآن وهو الذي يسيطر على الموصل منذ زهاء 3 سنوات؟، وهناك البعض الآخر الذي استخف المقارنة بين الآثار ودماء الأبرياء التي تُهدر، والبعض الذي حاول خلق التوازن بين التضامن الإنساني مع الضحايا وكذلك الحزن على الإرث الثقافي.

 

 

بين هؤلاء وهؤلاء، تداول آخرون مقطع فيديو للفريق عبدالوهاب الساعدي، قائد عمليات الموصل، وهو يقلل فيه من شأن المئذنة الحدباء، قائلًأ إنها "لا تعادل قطرة دم واحدة من المقاتلين، فهي مجرد حجارة" وتداول هذا الفيديو كدليل آخر على تورط الجيش العراقي والتحالف الدولي في قصف الجامع والمئذنة التاريخية، وسواء قُصفت المئذنة الحدباء بالطيران الأمريكي، أو فُجّرت بمتفجرات داعش، فالنتيجة واحدة، وهي خسارة الإنسانية لإرث ثقافي لن يُعوض.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

أرامل العراق.. أرقام عالية ومعاناة مضاعفة

العراق.. حرب النفط والمخدرات في البصرة