05-يوليو-2020

المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري 1938-2008 (من الويب/الجزيرة)

في ذكرى وفاة المفكّر المصري عبد الوهّاب المسيري، الذي توفي في الـ3 من تموز/يوليو 2008، يمكن إثارة أسئلة كثيرة متعلّقة بسيرته الشّخصيّة، وكان دوّن جانبًا منها على طريقته في كتابه "رحلتي الفكريّة في البذور والجذور والثّمر، سيرة غير ذاتيّة غير موضوعيّة" الصّادر سنة 2000، وأخرى متعلّقة بمنجزه الفكري، وكُتب الكثير عنه ومازال يحتاج المزيد ولاسيما في اتّجاه الاستثمار لأرضيّات أسّسها، وأكثرُها شهرة تلك التي موضوعها اليهوديّة والصّهيونيّة. لكنّ الاختيار هنا قد وقع على تناول موجز للسؤال التّالي: ما الذي افتقده نوع محدّد من القرّاء بوفاة عبد الوهّاب المسيري؟.

يقف فرق جوهريّ بين من يكتب لقارئ كي يؤكّد له ما يؤمن به، ولم يعرضه للاختبار؛ ومن يكتب لقارئ يدفعه بطرائق شتّى إلى اختبار ما يعرف، وإلى اكتشاف ما لا يعرف

يعود سبب السّؤال أنّ الكتّاب بمثل ما يُعرفون بأفكارهم يمكن أن يُعرفوا بنوع القارئ الذي يجد حاجته عندهم. وههنا فرق جوهريّ بين من يكتب لقارئ كي يؤكّد له ما يؤمن به، ولم يعرضه للاختبار؛ ومن يكتب لقارئ يدفعه بطرائق شتّى إلى اختبار ما يعرف، وإلى اكتشاف ما لا يعرف. وهو الأمر الأهمّ خاصّة في السّياقات الثّقافيّة التي تسيطر عليها روح التّقليد، والرّغبة في اجترار المشكلات ذاتها.

اقرأ/ي أيضًا: بين إدوارد سعيد والمسيري.. تأملات في فقد الحرية

كانت لعبد الوهّاب المسيري إضافات فكريّة مشهورة في دراسة العلمانيّة تاريخًا وفلسفة وجود، كما كانت له إضافات جوهريّة أيضًا في الارتفاع باليهوديّة والصّهيونيّة من مواضيع سياسيّة مباشرة، تغلب عليها الغرائزيّة الانفعاليّة إلى مواضيع دراسة علميّة موسوعيّة. ليمكن القول أن ما يندر في  الفكر العربي المعاصر ما يضاهيها. لكنّ الأهمّ من الإضافات الفكريّة هو النّزعة إلى بناء المفاهيم والاصطلاحات الخاصّة بصاحبها، وهي التي غدت بسرعة من عناوين ذيوع صيته، وأشهرها النّموذج التّفسيري والعلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشّاملة والجماعات الوظيفيّة إلخ. لكنّ الإضافات الفكريّة والمفهوميّة على أهمّيتها ليست الأهمّ في ما يمكن أنّ يكون القارئ افتقده.

بالإشارة إلى نوع محدّد من القرّاء، يقصد من همه البحث عن نصوص خارج البضائع التّقليديّة. وهذا النّوع لا جيل محدّدا له، ولا انتماء إلى رقعة بعينها. بل هو الجيل الذي يمكن القول دون مبالغة إنّه عاف ما كان مثّل قراءاته الأساسيّة في قضايا هي موضوع دائم للاستقطاب من قبيل الإسلام وتاريخه، والموقف   من الإسلام السّياسي، وحقيقة العلمانيّة، وما تمثّله الصّهيونيّة، وطبيعة الدّولة الاستبداديّة القائمة إلخ. وما عافه ليس الخوض في مثل هذه المواضيع إذ إنّها    في النّهاية مفروض النّظر فيها وتجديد النّظر. لكنّه عاف طرائق إثارتها، وعاف افتقار تلك الطّرائق إلى الحدّ الأدنى من القيمة العلميّة، وعاف أخيرًا الانسدادات التي انتهت إليها المناقشات الفكريّة العربيّة فيها.

توجد قطعًا استثناءات خارج هذا الوصف. لكنّها تظلّ للأسف استثناءات بما يعنيه ذلك من صعوبة سماع أصالة صوتها، وصعوبة تقبّل وعي متخم بالمسبقتن لما تقوله وتدعو إليه. لكن في ذات الوقت يمكن البداية أوّلا بالانسدادات حتّى يتم التعرف إلى أصالة هذه الأصوات، وعبد الوهّاب المسيري واحد من أكثرها أهمّيّة.

صار مزعجًا أن يكتشف القارئ أنّ ما يكتبه له كاتب في المسائل المذكورة أعلاه في أواخر القرن العشرين وبداياته هو تقريبًا ما كتبه كاتب في نهايات القرن التّاسع عشر وبدايات العشرين. فيتساءل ما الفرق جوهريّا في معرفة العلمانيّة والموقف منها مثلًا بين لحظات إثارتها الأولى في المحاورة المشهورة بين محمّد عبده وفرح أنطون، ولحظات الخصام حولها المستمرّ إلى أيّامنا؟ وهذا الانقسام حول الغرب والإسلام الذي لا يلتئم، لم لا ينتهي إلى منجزات فلسفيّة  أو إيديولوجيّة مباينة لما كانت عرفته أجيال من القرّاء منذ الحدث الكولينيالي وقبله؟ ولم تاريخ من التّأليف في الاحتلال الصّهيوني، ومراكز دراسات ومجلّات مختصّة تكرّر إلى ما نهاية الأفكار الكبيرة نفسها دون أن يحدث تراكم نوعي في المعرفة بهذا العدوّ الذي يعرف عنّا كلّ شيء، من تاريخ الإسلام الأوّل إلى تفاصيل التّفاصيل عن التّاريخ المعاصر؟.

المعرفة بالحدّ الإسلاميّ الأدنى تفترض تبرئة الإسلام من عداوة لظاهرة لم يعرفها، وما يعانيه من غيابها في العصر السّياسي الحديث أضعاف ما قد يعانيه من حضورها الممكن

يعسر في مقام موجز كهذا كشف حساب عن خيبات جيل من القرّاء، يقرأ كثيرًا. لكنّه يقرأ الأمر نفسه: أنت علمانيّ فأنت بشكل آليّ غالبًا خصم للإسلام السّياسي وجزء من الجهاز الدّعائي لسلطة بائسة هجينة تفترض المعرفة بالحدّ العلمانيّ الأدنى معارضتها إلى الرّمق الأخير. وأنت إسلاميّ فأنت أيضا بشكل آليّ وغالبا ترى العلمانيّة غزوًا فكريّا، وتهديدًا للإسلام لابدّ من مواجهته بكلّ الطّرائق، بما فيها أكثرها عنفًا، والحال مجدّدًا أنّ المعرفة بالحدّ الإسلاميّ الأدنى تفترض تبرئة الإسلام من عداوة لظاهرة لم يعرفها، وما يعانيه من غيابها في العصر السّياسي الحديث أضعاف ما قد يعانيه من حضورها الممكن.

اقرأ/ي أيضًا: العلمانية المشوّهة عند العقل الأصولي

ليست الغاية رسم خريطة قاتمة عن الموادّ المغشوشة التي استهلكتها أجيال وأجيال فعادت ما لم تعرف، وتآلفت مع ما لا يستحق أن يذكر أصلًا، وإنّما الغاية أنّ الانسدادات في المسائل النّاتجة عن أمّيّة ثقافيّة واسعة الانتشار تحتاج إلى قامات من نوع خاصّ لكشفها أوّلًا، ولبيان مسالك أخرى ليست ممكنة فحسب بل ضروريّة ومجدية جدًّا أيضًا. وههنا يمكن وضع شخصيّة مثل عبد الوهّاب المسيري لاستكشاف ملامح من بورتريه مفكّر يكتب بروح جديدة ويسلك في سيرته بكيفيّة خاصّة تجعله أحد كبار المساهمين  في إنشاء قارئ جديد، ووعي إنساني ومواطني مختلف. والملامح التي نريد رسمها هي التي يمكن تسميتها بالملامح المراوغة أو غير النّمطيّة، التي بدورها غالبًا ما تصعّب عمليّة تصنيف صاحبها، وتصعّب استتباعا عمليّة حشر أفكاره في الاستقطابات السّهلة المشار إلى بعضها أعلاه.

يمكن الانطلاق أوّلًا من فكرة بسيطة قوامها أنّ عبد الوهّاب المسيري الذي وُلد ونشأ في دمنهور، وأنهى جانبًا من تكوينه الجامعي في الإسكندريّة، ثمّ أقام في الولايات المتّحدة الأمريكيّة فترتين تُوّجتا بشهادة الدّكتوراة، إنما يمثّل استمرارًا لما يقارب القرنين من تاريخ البعثات التّعليميّة العربيّة إلى البلدان الغربيّة. وقد كانت الغاية المرسومة لهذه البعثات الاقتباس من أجل تحقيق النّهضة. لكنّها أسهمت عبر تاريخها، وبما كان يرافقها من الانبهار في إنشاء تاريخ آخر وصفه الطّاهر بن علي بن بلقاسم الحدّاد بـ"تاريخ الشّعور بالنّقص" كان حجابًا من حجب كثيرة منعت معرفة الغرب كما هو، دون انبهار أو عدوانيّة فارغة، ومعرفة الذّات كما هي دون افتخار أو شعور معيق باحتقار الذات وتاريخها. والمسيري في كتابه المخصّص لسيرته وعموم آثاره يكشف نوعًا مختلفًا من "البعثات" متحرّرًا من الحجب التي أتلفت عقولًا كثيرة. فالمعرفة العميقة بالغرب من مدخل اللّغة الانجليزيّة والتّخصّص في الأدب ترافقا مع استحضار عميق لأدبيّات مدرسة فرانكفورت النّقديّة في السوسيولوجيا ممّا أتاح نشأة محاولة نادرة عربيًّا من محاولات التّفلسف في الغرب. وهذه النّدرة هي التي تجعل فقدان المسيري مؤثّرا بالنّسبة إلى قارئ جديد مختلف لم يعد يقنع بالنزعة المضادة للغرب اعتباطًا مثلما لم يعد يستسيغ التّعامل مع التجربة التاريخية الغربيّة كما لو كانت منتهى التّاريخ الإنساني.

أمر ثان يمكن الوقوف عنده في ما يتعلّق بالعلمانيّة، وهي مسألة استهلكت أجيالًا دون أن تحصل إضافات نظريّة جوهريّة. وبدا أنّ الأمر كما لو كان اعتقادًا دينيًّا قائمًا على الولاء والبراء، تؤمن بالعلمانيّة أو تكفر بها. وأسهمت الدّولة التي وسمها آصف بيات بالعلمادينيّة والأدبيّات الإسلاميّة الإيديولوجيّة منذ حسن البنّا في تعميق الانسداد الذي عانى منه مطوّلا التّفكير في علاقة السّياسي بالدّيني. 

إذا كان من غير الممكن في مقام كهذا اختزال الجهد النّظري الضّخم الذي أنجزه عبد الوهّاب المسيري فإنّ أكثر ما قد يهم أنّ الرّجل جمع أمرين قلّما يجتمعان، فهو علمانيّ ناقد للعلمانيّة، وقريب من الفكرة الإسلاميّة متحرّر من عوائقها الجوهريّة. فالفصل بين إدارة الشّأنين السّياسي والدّيني هو أمر مفروغ منه عنده. لكنّ "العلمانيّة الشّاملة" من حيث هي "رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة. وهي رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعيّة الكامنة والواحدية المادّيّة" موضوع نقد تفصيليّ عنده. 

الحقيقة أنّ علمانيًّا على سنّة الله ورسوله بشيء من تحريف عبارة المسيري المشهورة الطّريفة تحيل إلى البورتريه المراوغ الذي يستطيع أن يكشف زيف الاستقطابات التّقليديّة والانسدادات التي تؤدّي إليها. وهذا ما يفسّر وجهًا آخر يفتقده القارئ بموت المسيري، وهو الوجه المؤلّف بين الإسلاميّين والعلمانيّين في صيغة تتجاوزهما نقديًا معًا نحو صيغ أكثر حيويّة وأقلّ بساطة. وحين كان الرّجل في موقع منسّق حركة كفاية المصريّة الشّبيهة بـحركة 18 أكتوبر التّونسيّة كان ذلك إعلانًا عن مثقّف مختلف لا يغذّي استقطابًًا مغشوشًًا بين علمانيّين وإسلاميّين تستمتع السّلطة الاستبداديّة القاهرة بتغذيته حتّى تستمرّ في قمع هؤلاء وهؤلاء بحسب ما يعنّ لها، ووفق الظّرف الذي تجد نفسها فيه.

 كان عبد الوهّاب المسيري في قلب المعركة مع الاستبداد، ودفع ثمنًا صحّيًّا باهظًا في مواجهة نظام حسني مبارك الذي رفض علاجه في مرحلة من مراحل إصابته بالسّرطان. وكان الجمع بين صفتي المفكّر والمناضل ملمحًا آخر لبورتريه يتجاوز بؤس تاريخ طويل من مفكّرين يعيشون بالسّلطة وللسّلطة، ويعتبرون المكانة الأكاديميّة بابًا إلى الوجاهة والمغانم.

الوقوف أمام عبد الوهاب المسيري يعني استكشاف بورتريه مفكّر يكتب بروح جديدة ويسلك في سيرته بكيفيّة خاصّة تجعله أحد كبار المساهمين  في إنشاء قارئ جديد، ووعي إنساني ومواطني مختلف

لا يمكن الخروج من سيرة المسيري دون إلحاح سؤال: ماذا لو عاصر المسيري موجة الاحتجاجات الكبرى التي عمّت دولًا عربيّة منذ شتاء 2010؟ وماذا لو عاصر الانقلاب الدّموي في التّجربة المصريّة؟ أجوبة كثيرة ممكنة. لكنّ جوابًا واحدًا لا يمكن تخيّله استنادًا إلى تاريخ الرّجل، وهو الوقوف في مواجهة إرادة النّاس، وجوابًا آخر لا يمكن إلّا تخيّله، وهو جولة إضافيّة في مواجهة سلطة يعرف، وهو الذي تقلّب بين الاتجاهات اليساريّة والإسلاميّة على طريقته المخصوصة أنّها تخاف من الملامح المراوغة الخارجة عن تصنيفاتها البائسة. فهذه الملامح الجديدة لقارئ ومشروع إنسان جديدين إعلان عن انتهاء تاريخ صلوحيتها حتّى وإن استمرّت بعده بعض الوقت.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رباعيات الخيام وتشكيل العلمانية الغربية

الموقف العلماني.. عن الإنسان والسلطة