18-فبراير-2019

الروائية نجاة عبد الصمد

ألترا صوت – فريق التحرير

 يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


نجاة عبد الصمد روائية ومترجمة من سوريا، من مواليد مدينة السويداء عام 1967. أصدرت عددًا من الأعمال الأدبيّة والروائية، منها: "بلاد المنافي" (رواية)، و"غورنيكات سوريّة" (سرد). أما آخر أعمالها فكانت رواية "لا ماء يرويها".


  • ما الذي جاء بكِ إلى عالم الكتب؟

وعيتُ الكتاب امتدادًا ليدي أبي ومرمى لعينيه رغم ضعف بصره. كان يقرأ فقط في كتب الدين وما يفضي إليها، وهي قراءة على أية حال أورثني إياها من حيث لم يقصد ولم يتوقع أنني سأتخذ لاحقًا فيها دربي الخاص الذي لا يشبه دربه وقناعاته ولا يحول دون صداقتنا العميقة والصامتة. في مشاويره النادرة من قريتنا الصغيرة في جنوب سوريا إلى العاصمة كانت هداياه إلينا كتيّباتٍ ملوّنة للأطفال. في ذلك العمر الصغير قبل المدرسة لم يكن في بيتنا كهرباء. في الليل نجلس حول أمي، تتلامس أرجلنا تحت بطانيةٌ واحدة، ويضيء جلستنا قنديل الكاز، ويحييها صوتُ أمي وهي تقرأ لنا مغامرات القطة مومو والفأرة فيفي وبياض الثلج وأقزامها السبعة، ولا تكف أبدًا عن روي قصص الأولياء الصالحين، من يوحنا المعمدان إلى النبي أيوب وذي النون المصري وأحمد السبتي ورابعة العدوية.

في الابتدائية صرنا نستعير من مكتبة المدرسة مجلة أسامة، وقصص المكتبة الخضراء. كنا ندفع فرنكين أجرًا على كل قصة نستعيرها. هذان الفرنكان كانا كلَّ "خرجيتنا" اليومية، وهو مبلغٌ صغيرٌ جدًا لا يقبل به إلا أمثالنا من الأطفال الفقراء، ندفعهما لقاء استعارة قصة من مكتبة المدرسة بدلًا من أن نشتري بهما مصّاصة حمراء حلوة وبسكوتة بالكريمة أو قطعة خبز "سمّون" لذيذةً وطازجة. لا تغيب عن ذاكرتي أبداً حكايات جدتي الراحلة، عن "الشاطر حسن والفشّيخ وعلاء الدين وحمدة ومحمد والغول والغولة.."، ومعها أستعيد دفء صوتها الذي يروّض خوفنا من مكائد الأشرار في عالم حكاياتها اللذيذة.

كنا نقرأ أيضًا قصاصات الجرائد وروشيتات الدواء وكاتالوغ الأجهزة الكهربائية والإعلانات على جدران السوق كأنها فرض قراءةٍ غير معلن.

أذكر، في الصف الثالث الابتدائي، كنا نساعد أصدقاء أهلي في موسم صنع الزبيب، نفرش معهم العنب المغسول على أوراق الجرائد في أرض الكرم حتى ينشف ويتشرّب لون الشمس ويُخزّن طعمها. وفي المساء أوصلَنا صديق أبي إلى بيتنا واشتكانا إليه، فقد ضبطنا نتلهى عن العمل بقراءة صفحة النصوص الأدبية في الجريدة الصفراء والباهتة. بالطبع لم يعلم الجار أننا غافلناه أنا وأختي، كسارقتين صغيرتين، واقتطعنا هذه الصفحات وطويناها وأخفيناها في جيب حقيبتنا لنكمل قراءتها في البيت، فقد رأينا لديهم جرائد كثيرة مهمَلة بينما لم يكن لدينا ما نقرأه لذلك المساء.

في الإعدادية والثانوية لم نعد ندفع لقاء استعارة الكتب من مكتبة المدرسة ومكتبات أساتذتنا الذين كانوا معلمين ومربين. كانت مواعيد الليل الطويل مع سلسلة "دار العلم للملايين"، وجرجي زيدان وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وغسان كنفاني وحنا مينة، قبل أن أبدأ في الثانوية مع أدب حنا مينه ونجيب محفوظ وأدب النهضة الأوروبية، ولاحقًا دوستويفسكي وتشيخوف وغوغول، ثم الأدب السوفييتي، ودومًا كانت قراءة دواوين الشعر القديم والحديث حلوى لذيذة بين روايتين. أذكر أن أمينة مكتبة المدرسة بعثت تسأل الموجهة: "ماذا تعرفين عن هذه التلميذة؟ أشكّ في أنها تقرأ دروس المدرسة أو تكتب وظائفها! كل يومين تستعير كتابًا جديدًا، وأسألها عن محتوى الكتاب حين تعيده فتجيبني بملخص عن الكتاب".

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتكِ؟

هي كتب وليس كتابًا واحدًا، لن يتسع لها مجال هنا، ولكل منها بصمته التي تؤازرها بصمة كتابٍ آخر. تحظرني الآن "نساء صغيرات" لويزا ألكوت، ثلاثية "البحث عن الأنا" وليد الحجار، "ذهب مع الريح" مارغريت ميتشل، "الحب في زمن الكوليرا" ماركيز، "تقرير إلى غريكو" نيكوس كازانتزاكي، "الخلود" ميلان كونديرا، "الجريمة والعقاب" و"مذلون مهانون" دوستويفسكي، كتب محمود درويش النثرية كلها، "نساء في الحريم" فاطمة المرنيسي، معظم ما كتب أمين المعلوف، "أشياء كنت ساكتة عنها" و"أن تقرأ لوليتا في طهران" آذر نفيسي، رباعية يوكيو ميشيما، روايات ألبرتو باثكث فيكيروا تقريبا كلها. كذلك أدب أمريكا اللاتينية عمومًا، أدين بالذات لإيزابيل ألليندي بأنني مع قراءة كل كتاب لها تحفزني هي بالذات كما لا أحد على أن أكتب وأكتب.

  • من هو كاتبكِ المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

لا أستطيع أن أقول كاتبي الوحيد المفضل، هكذا فقط. هناك خط في الكتابة هو الأثير عندي كقارئة، رواده هم الكتاب الذين ذكرتُ أعلاه، إضافة إلى الكثير من كتّاب وكاتبات جيلي، خط الكتابة الملأى بمتعة القراءة والمعرفة والتي تتعب عقلي في الكم الهائل من أسئلةٍ تطرحها وآفاقٍ تفتحها، والتي أخرج منها أبداً لا كما دخلت إليها، أو لا أخرج منها أبدا..

وأراني دومًا أعود وأعود إلى دواوين المتنبي وبدوي الجبل ومحمود درويش وفروغ فرخزاد ونيرودا.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟

نعم، ودومًا. بداية وفي سنوات القراءة أيام المدرسة كنت أكتب ملخصًا وافيًا لكل كتاب ثم مع الوقت صرت أكتب ملاحظاتي على دفتري وأدوّن بعض الجمل، أو المقاطع التي كثيرًا ما أعود إليها حين الحاجة، أو لأعيد استمتاعي بقراءتها من جديد.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

لم تتغير كفعل قراءة، إنما لزمها وقت ليس بالقصير حتى تقبّلتْ فكرة أن تقرأ إلكترونيًا كتابًا ثمينًا وجديرًا. ظننتني لن أستطيع ذلك أبدًا. كان يجب تشغيل العقل حتى يستوعب أن طريقة جديدة للقراءة سوف تفرض نفسها بحكم الضرورة، ثم تتقدم لتشغل معظم مساحات القراءات الحالية حين لم نعد قادرين على شراء الكتب بعد بداية الحرب في سوريا. وجدتني بدلًا من أن أخط بقلم الرصاص خطوطًا حييّةً، بالكاد تبان، تحت العبارات الأثيرة في كل كتاب، انقل هذي الجمل أو المقاطع كاملة إلى دفتري بلا تذمر، كأنني أستعيد مضغ لقمةٍ زكية، بكل منمنمات وحلاوة التفصيلات الصغيرة، وما أزال أفعل حتى الساعة.

  • حدّثينا عن مكتبتك؟

لم تبدأ مكتبتي الخاصة بالتشكل إلا منذ حوالي خمس عشرة سنة. نواتُها الأولى بدأتْ أيام الثانوية، حين أدرجنا فيما بيننا عادة تهادي الكتب في المناسبات بدلًا من أشياء اللباس والزينة. بدأت على حياء ثم أخذت تزاحم باقي فواتير الشراء وغلبتها.. بعد الاستقرار المادي نمت سريعا قياسًا إلى عمرها وربما وصل عدد الكتب فيها إلى ثلاثة آلاف. هو رقمٌ لا ينافس أبدًا تلك المكتبات البيتية المعتبرة؛ لكنه عندي ثروةٌ كاملة. حين صار لي بيتٌ بعد طول تنقّل بين البيوت المستأجَرة، أسكنتُ الكتب على رفوفها قبل أغراض المطبخ أو الصالون أو حتى أغراضي الشخصية، وبدورها استضافتني الكتبُ لأسكن حول مقامها. ولا أعتبر المكتبة ملكًا شخصيًا أبدًا، فباستثناء "المنجد" و"لسان العرب"، فإن باقي الكتب كلها في إعارات دائمة وفق قواعد صارمة في الرفق بها وتوقيت إعادتها والتأكد من أن مستعيرها قد قرأها. توفيرُ الكتب لقارئٍ شغوفٍ لا مكتبة لديه رسالةٌ تمنحني فيضاً من السعادة، وهو جزء من دَينٍ قديم عليّ أن أردّه.

  • ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟

الآن أقرأ كتابين: الأول "امرأة في برلين" رواية أقرب إلى تدوين يوميات عبر ثمانية أسابيع في برلين المحتلة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كاتبتها مجهولة الاسم، بترجمة ميادة خليل، من "منشورات المتوسط". والثاني "سيكولوجيا العلاقات الجنسية" لثيودور رايت، بترجمة ثائر ديب، من "دار المدى".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة شربل داغر

مكتبة خالد حسين