08-نوفمبر-2020

فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ

في كتابه المترجم حديثًا والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت بعنوان "فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ" يتحدى نور مصالحة المقاربة الاستعمارية لفلسطين والخرافة الخبيثة القائمة على مقولة "أرض بلا شعب"، ويرى أن يُقرأ تاريخ فلسطين بأعين شعب فلسطين الأصلي.

تستعرض هذه المادة، في خمس حلقات، فصول هذا الكتاب القيّم والذي لربما يُعتبر الأشمل فيما يتعلق بتاريخ فلسطين الجغرافية لما فيه من تفاصيل ومعلومات.

إعادة اكتشاف فلسطين الحديثة وأثرها في الهوية الوطنية الفلسطينيّة

في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ازداد المستشرقون الأوروبيّون الرومانسيّون ازديادًا هائلًا، وبدأت تصدر منشورات ضخمة في الجغرافيا التواريتة عن جغرافيا فِلَسطين التاريخية، ولم تكن باللغة اللاتينية فقط، بل في اللغات الأوروبية الدارجة.

ويشير الكاتب إلى أنه نتيجةً لنظام ظاهر العُمَر المستقل، والعلاقات التجارية التي أنشأها مع فرنسا وبريطانيا على وجه الخصوص، فقد تمكن من ربط الجليل بكل الساحل الفِلَسطيني، وقد نتج عن هذه العلاقات ازدياد في مرويّات الترحال الأوروبية إلى فِلَسطين، والأدلة الجغرافية، والكتابات الدينية، ومرويّات الحجّاج، والخرائط، والتي ظلّت تميّز تمييزًا واضحًا بين فِلَسطين وسوريا، وتتعامل مع فِلَسطين التاريخية على أنها بلد على حدة.

ويذكر أيضًا أنه بين الأعوام 333 و1878 تم إحصاء ما مجموعه 3515 عملًا ومخطوطة ومطبوعة مخصصة للأدبيات عن فلسطين، وقد شهد القرن التاسع عشر وحده حتى العام 1878 ما مجموعه 1915 عملًا عن هذا البلد.

ينوّه مصالحة بخصوص هذه الأعمال التي روت تفاصيل جولات الرحّالة الأوروبيين، والروس، والأمريكيّين الشماليّين والتي مُوِّلت من الرأسمالية الصغيرة واستخدمت تقنيات الطباعة الحديثة آنذاك ووسائل النقل الجديدة أنها لم تتعامل مع البلاد على أنها تواريخ معيشة وذكريات مشتركة للناس العاديين، بل تعاملت معها على أنها ذكريات للمسيحية الغربية التي تبحث عن هويّة جديدة في وسط الصراع المحتدم بين العقلانية والشك العلمي من جهة، وأصولية إنجيلية حرفية من جهة ثانية.

الاستشراق الروسي المتركّز على فِلَسطين

في القرن التاسع عشر، سار الاستشراق الروسي الأرثوذكسي وتصوّرات فِلَسطين يدًا بيد. وقد بدأ هذا الوجود عام 1844 مع وصول أول أرشمندريت روسي أرثوذكسي إلى فِلَسطين، وفي الأربعينات من القرن ذاته حصل الروس على تصريح لبناء مجمّع ضخم في القُدس وتم تشييده ما بين الأعوام 1860 و1864، وتم إنشاء الجمعية الروسيّة الأرثوذكسية الفِلَسطينية في العام 1882، وأضيفت كلمة الإمبراطورية عام 1889 فأصبحت تُدعى الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفِلَسطينية، وذلك بتحفيز من تأسيس الصندوق البريطاني لاستكشاف فِلَسطين الذي تأسس عام 1865.

وكانت الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفِلَسطينية تُعنى بالعُلوم والتربية والتنظيم الاجتماعي، بالإضافة إلى تشجيع الحج الروسي إلى الأراضي المقدسة وتنظيمه. وقد قامت ببناء مدارس ومستشفيات في فِلَسطين وعملت بشكل أساسي بصفة جهاز عام يدافع عن المصالح الروسية.

بعد الثورة في روسيا عام 1905 تقلصّت موازنة الجمعية، وبعد الثورة البلشفية عام 1917 تم إعادة تسميتها لتصبح الجمعية الروسيّة الفِلَسطينية وأُلحقت بأكاديمية العلوم في الاتحاد السوفييتي. وخلال حقبة الانتداب البريطاني، فرض البريطانيّون قيودًا صارمة على نشاطات الجمعية، وبعد العام 1948 صادرت إسرائيل كثيرًا من أراضيها وممتلكاتها. في عام 1992 استعادت الجمعية اسمها الأول الجمعية الإمبراطوريّة الأرثوذكسية الفلسطينيّة، وهي اليوم تُدير مشاريع في فلسطين تحت هذا الاسم.

ويذكر الكاتب أنه لطالما عد حُكام روسيا أنفسهم حماة أساسيين للمسيحية الأرثوذكسية، ولا سيّما بعدما سقط معظم أعضاء كنائس الروم الأروثوذكس منذ عام 1460 ولغاية التمرد اليوناني عام 1821. وقد أدّى هذا إلى صدامات عديدة بين الروس من جهة والبريطانيين والفرنسيين من جهة أخرى، ولعلّ حرب القرم أبرز دليل على التنافس فيما بينهم على القدس وحماية الأقليّات المسيحية الأرثوذكسية في فلسطين.

في المقابل، دعمت الحكومة القيصرية الروسية عام 1890 إنشاء ما يسمى بـ هوفيفي تسيون، وهي جمعية خيرية روسية معروفة رسميًا بجمعية دعم المزارعين والحرفييّن اليهود في فلسطين وسوريا.

ما بين الأعوام 1910 و1914 ارتفع عدد الحجّاج الروس المدعومين من الحكومة الروسية من 8000 إلى 14000 حاج سنويًا، وهو ما كان له عظيم الأثر في إعادة التنظيم الإداري العثماني في فَلَسطين أوائل القرن العشرين.

ويخلص مصالحة إلى أن الكتابات الروسية عن فِلَسطين في أواخر الحُكم العثماني والحج الكثيف إليها مهمّة جدًا وقد نجم عنها بقصد أو بدونه أنها ألهمت المستوطنين المستعمرين الصهيونيين الأوائل مثل جمعية هوفيفي تسيون (عشّاق صهيون) الذين بدأوا يأتون من أراضي الإمبراطورية الروسية إلى فِلَسطين بهدف الاستقرار، كما أنها أسهمت في سيطرة الصهيونيّون الروس على المنظمة الصهيونية العالمية، بالإضافة إلى أنها كانت تُشكل تهديدًا للسلطنة العثمانية خلال القرن التاسع عشر.

صندوق استكشاف فلسطين

يذكر مصالحة أن صندوق استكشاف فِلَسطين البريطاني ومصلحة المساحة لغرب فلسطين بين الأعوام 1871 و1877 كانا مركزيَّين في الإحياء الصليبي السلمي الفيكتوري والفتح الناجح للأرض المقدسة في القرن التاسع عشر. وكانت مصلحة المساحة تمثل الوكالة الوطنية البريطانية لرسم الخرائط، وهي أحد أكبر منتجي الخرائط في العالم، وكانت مختصة بالأغراض العسكرية الاستراتيجية وتعود أصولها إلى عام 1745.

أسّس صندوق استكشاف فلسطين البريطاني عام 1865 فريق باحثي التوراة، وجغرافيي بيت المقدس، وضباط من الجيش والاستخبارات، ورجال الدين البروتستانت، ولا يزل مكتبه في وسط لندن لغاية اليوم ويُصدر صحيفة أكاديمية تُعرف بمجلة استكشاف فلسطين الفصليّة.

ويشير مصالحة إلى أنه وبعد انطلاق أعمال الصندوق في فِلَسطين، شرعت سلطات الانتداب البريطانيّة بجمع معلومات عن أسماء المواقع من السكّان الفلسطينيين المحليين وذلك في مسعى لإظهار الاستعمار الأوروبي الحاضر على أنه استمرار للامتلاك اليهودي القديم للبلاد، الأمر الذي أدى بروز نزاع شديد بين المستعمرين الاستيطانيين الصهيونيين الأوروبيين والفلسطينيين المحليين فيما يخص أسماء المدن والمواقع المختلفة في البلاد، وظلّت الأسماء العربية الفلسطينيية مُعَبرَنة مع استعمال الصهيونيين استراتيجية استعمار مؤسسة على أسماء العهد القديم.

فلسطين أواخر الحكم العثماني 1872 – 1917

في مخطوطة من العام 1879 للمؤلف الدمشقي نعمان القساطلي عنوانها  الروضة النعمانيّة في سياحة فلسطين وبعض البلدان الشاميّة، يذكر مصالحة أن الاسم العربي فَلَسطين أو فِلَسطين قد ورد ذكره بمواضع عدّة، بالإضافة إلى أن فِلَسطين الحديثة أو الأرض المقدسّة كانت مذكورة بصفتها بلدًا على حدة، ومنفصلة عن سوريا الحديثة، مما يدل على تحوّل النموذج في النظر إلى فلسطين في أواخر العهد العثماني.

ويشير الكاتب إلى أن بداية أهمية فِلَسطين بالنسبة لحكّام السلطنة العثمانية المتداعية في ذلك الوقت تبدلّت جذريًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومن أهم هذه التحولات كان إعادة التنظيم الإداري العثماني في فِلَسطين، والإصلاحات التي كانت قد أُحدثت بفعل الضغط المتزايد من الحلفاء الأوروبيين الذين ساندوا العثمانيين في نزاعها ضد احتلال مصر للمشرق ما بين الأعوام 1831 و 1840 وأيضًا أثناء الحرب العثمانية الروسية، حرب القرم في الأعوام 1853 – 1858 والتي كان السبب الرئيسي فيها يتركّز على النزاع الشرس بين القوى الأوروبية على فِلَسطين وعلى حقوق الأقليات المسيحية في الأرض المقدسّة.

في ستينيات القرن التاسع عشر، أبدلت السلطات العثمانية الإيالات أو الباشليك الفلسطينية بولايات، وكانت كل منها مقسّمة إلى سناجق وألوية، وكان السُنجق مُقسّمًا إلى أقضية، والقضاء مقسّم إلى نواح. في ثمانينات القرن ذاته، أنشأ العثمانيون وضعًا إداريًا خاصًا للقدس مع أربعة مناطق فرعيّة أخرى سُميّت متصرفيّات بالعربية، وبالتركية العثمانية متصرفليك، وبذلك أنشئت متصرفيّة القدس الشريف عام 1872 وكانت جغرافيًا أكبر خمس مرّات من سنجقي نابلس وعكّا، وكأنها مقاطعة مستقلّة منفصلة تمامًا ووضعت تحت إشراف مباشر من إسطنبول.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن إعادة التنظيم الإداري الجذرية البعيدة المدى هذه قد أُقرّت بموافقة ودعم قوي من النُخّب الفِلَسطينية المحلية ذات النفوذ، ولم يُسجل أي اعتراض محلي على فصل القدس ومعها أجزاء واسعة من فِلَسطين إداريًا عن منطقة الشام.

وقد ضمّت متصرفيّة القدس إضافة إلى قضاء القُدس، أقضية يافا، وغزّة، والخليل وبئر السبع. وقد أنشأ العثمانيون أيضًا في العام 1872 سنجقي نابلس وعكا اللذين يشكلان مع متصرفيّة القدس الأساس الجغرافي لفِلَسطين الانتداب بين الأعوام 1917-1948. وينوه مصالحة إلى أن المؤرخين أخفقوا في الاعتراف بأن كلًا من الجذور التاريخية لفلسطين الانتداب، والأساس الجغرافي لسنجق عكا يعودان في الزمن إلى القرن الثامن عشر، وأن مقاطعة عكا لم تكن كيانًا أنشأتها السلطات العثمانية بل فُرضت عليها فرضًا من قبل ظاهر العُمَر الذي هزم العثمانيين واحتل عكا عام 1749 وجعلها عاصمة لإمارته.

ويربط الكاتب ما بين التنظيم الإداري الذي أحدثه العثمانيّون وبين التقسيم التاريخي للبلاد في العصرين البيزنطي والذي تألف من بالستينا بريما وبالستينا سيكوندا وبالستينا سالوتاريس (ترشيا) والإسلامي الباكر جند فلسطين وجند الأردن، لكن المفارقة الأساسية هُنا أنه سرعان ما تم ضم سنحقي نابلس وعكا إلى ولاية بيروت، وبقيت متصرفية القدس كإيالة منفصلة وحدودها هي التي صارت تُعرف فيما بعد بفِلَسطين الانتداب.

إعادة تخيّل الهويّة الفلسطينيّة المحلية وبذور الوطنية في فلسطين

يتفق مصالحة مع عدد من المؤرخين البارزين أمثال بشارة دوماني وإيلان بابي وباروخ كيمرلنغ، بالإضافة إلى رشيد الخالدي، على أن الهوية الوطنية الفلسطينيّة قد تشكلت في أواخر القرن التاسع عشر، وأنها لم تكن نتيجة لتشكل الحركة الصهيونية في ذلك الوقت، وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الهويّة قد حُفِّزت بالاستيطان الصهيوني ونشاط شراء الأراضي في المرحلة السابقة للحرب العالمية الأولى.

ويرى الكاتب أنه في أواخر القرن التاسع عشر كانت العلاقات بين الفلسطينيين المتكلمين بالعربية والمسحيين واليهود علاقة سلام واستقرار، وذلك نتيجة لقرون من التعايش والتاريخ الواحد والبلاد المشتركة. ويشير أيضًا إلى مذكرات المقدسي واصف جوهرية  والتي احتوت على شهادة مُقحمة عن بروز هويّة مزدوجةِ الشرائح فلسطينيّة عثمانيّة محليّة في فلسطين أواخر العصر العثماني، وعن التعايش والتنوع الثقافي والتمازج في مدينة القدس بوصفها عالمًا مصغرًا عن السلطنة العثمانية المتأخرة في فلسطين.

يذكر مصالحة أنه مع التصاعد الحاد في مدارس التعليم العلماني الحديث في البلاد، وتوسع انتشار القراءة، انكسر احتكار النخب الصغيرة المتعلمّة والدينيّة في المدن للتربية والتعليم، وبرزت الطبقات الحضرية الوسطى والمهنية، الأمر الذي أدّى إلى نمو بذور الوطنية العلمانيّة في فلسطين أواخر الحقبة العثمانية. وكان للمدارس الروسيّة الأرثوذكسية المزدوجة اللغات ومراكز تدريب المدرسّين في فلسطين دورًا مهمًا في دفع النهضة الثقافية في البلاد، وبالنتيجة أسهمت في إيقاظ الثقافة الوطنية.

وقد كانت أعمال خليل بيدس، وروحي الخالدي، وخليل السكاكيني أعلى ما في الثورة التربوية والثقافية والأدبية، وقد مثلّت ثورة تحديثية مدنيّة كانت مكرّسة للاستنارة الذاتية، والتقدم والتمكين الذاتي، والتمثيل والحكم الذاتي داخل الدولة العثمانية.

استمرت الثورة الثقافية التربوية والوطنية السياسية في فلسطين إلى بدايات القرن العشرين، ففي كانون الثاني/يناير من العام 1911، أسس الصحافيّان الفلسطينيّان عيسى العيسى وابن عمّه يوسف العيسى في يافا صحيفة فَلَسطين اليومية. ويناقش الكاتب أسباب تسميتها بفَلَسطين وهو الاسم الدارج والمحكي يوميًا للبلاد عِوضًا عن فِلَسطين أو فِلِسطين كما كانت معروفة في القرون السابقة. يفترض الكاتب أن هناك ثلاثة أسباب دعت العيسى لاختيار الشكل الدارج من اسم فِلَسطين؛ أولها أن استخدام اللغة الدارجة والوطنية والحاجة إلى تأسيس هويّة وطنية خاصّة تأثرًا بأوروبا وروسيا وتركيا واليابان في أوائل العصر الحديث، وثانيها أن تدريج اللهجة المحكية في فلسطين أواخر الحقبة العثمانية كان عاملًا أساسيًا في الدلالة على هوية وطنية خاصّة ومنفصلة، وأخيرًا اعتمد الناشران صيغة فَلَسطين بوصفها الصيغة العامّة الأوسع استعمالًا في الكلام، والأكثر شعبية في الاستخدام لدى الفلسطينيين المحليين وفي شوارع فلسطين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة فلسطين: فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ (3 من 5)

مكتبة فلسطين: فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ (2 من 5)